جاءني صوتها مخنوقا عبر الهاتف، لم تستطع أن تقاوم الرغبة في البكاء وحتى النحيب. ابنها البالغ من العمر 25 سنة قتل في سوريا وهو يتصور أنه يجاهد في صفوف داعش. إنه بطل بدون مجد، ومقاتل شجاع في المعركة الخطأ. حاولت أن أهدئ الأم المكلومة التي تريد أن تتقاسم قصتها مع أمهات أخريات حتى ينقذن أبناءهن من مصير مماثل. قلت لها: «احكي القصة من البداية لأفهم الموضوع»، فقالت: «إنه شاب متعلم كان على أبواب الزواج. عاش في أسرة من شمال المملكة لا ينقصها شيء. الأب كان استقلاليا يحلم ب«مغربنا وطننا روحي فداه»... والأم من أسرة التعليم. كبر الابن في أسرة من ثلاثة إخوة هو أصغرهم. درس في مدارس البعثة الإسبانية، وحصل على عمل بسهولة مع شركة دولية في شمال المملكة، لم تكن أسرته بعيدة عن التدين المغربي الوسطي، ولا هو كانت تظهر عليه علامات التشدد أو التطرف. كان شابا مقبلا على الحياة (ابن الوقت)، مولعا بتكنولوجيا التواصل الحديثة. كان يقضي ساعات طويلة أمام النيت ومواقعه وعالمه الافتراضي. لم تفطن الأسرة إلى أن الابن خرج من العالم الواقعي، وانخرط في عالم الجهاد العالمي حيث الصورة والفيديو يلعبان لعبتهما»... الشاب إلياس الذي قضى نحبه في صفوف مقاتلي البغدادي قبل أسابيع لم يُستقطب إلى داعش عن طريق المسجد أو الخلايا أو المؤطرين. جرى اصطياده من وراء الشاشة في الشبكة العنكبوتية حيث يشتغل جهاديو النيت في الفايسبوك والتويتر واليوتوب ومواقع التواصل الاجتماعي الأخرى، التي أصبحت الأرض الحقيقية للمعركة. هنا جرى غسل دماغ إلياس أولا بعرض فيديوهات معاناة السوريين والسوريات ضحايا بربرية الأسد، في محاولة لإثارة مشاعر إنسانية طبيعية، ثم منها إلى عرض معاناة أهل السنة مع عصابات الشيعة المدعومة من إيران وميلشيات المالكي التي تقتل النساء والأطفال، ومنها إلى محاربة أمريكا والغرب الكافر الذي يحتقر المسلمين، ويحتل أرضهم ويستبيح خيراتهم. ما الحل إذن؟ الحل الأول هو مبايعة البغدادي، والانتماء إلى الخلافة الإسلامية التي منذ أن انهارت قبل قرن والمسلمون من محنة إلى أخرى. ثم ماذا بعد البيعة؟ الجهاد في سبيل الله «ذروة سنام الأمر»، أي أهم شيء يمكن أن يحصل به المسلم على درجة الكمال، وهو الموت في سبيل الله، والذهاب إلى الجنة مباشرة بلا حساب ولا عقاب ولا سؤال... هكذا وجد الشاب نفسه على متن الخطوط الجوية التركية في طريقه إلى اسطنبول، ومنها إلى الحدود السورية، وبقية القصة معروفة. غاب لأسابيع وبعدها جاء صوته من وراء الهاتف لأمه يقول لها: «ادعي معي أن يقبلني الله في صفوف الشهداء». كيف؟ ومتى؟ ولماذا؟ لا جواب. الابن خرج من عالم ودخل عالما آخر، وما هي إلا أشهر حتى قُتل في ظروف لا يعلمها أحد. مات وترك أما تبكيه ما بقي في عمرها من عمر... شاب في مقتبل العمر حتى وإن لم يكن فقيرا يائسا فإنه كباقي الشباب في سنه يحلم بمشروع كبير، مثل شباب الستينات الذين انتموا إلى اليسار الراديكالي، الذي كان يحلم بتغيير العالم عوض فهم العالم، فتغيروا هم، أما العالم فلم يتغير. هذا الشاب الذي هاجر إلى داعش كان يتصور أن حمل الكلاشنكوف والانضمام إلى جيش الرب هو الطريق السهل إلى تحقيق ذاته، والانخراط في «اليوتوبيا» العالمية للجهاد، حيث يتم توظيف مشاكل حقيقية للمسلمين في العالم لاقتراح حلول انتحارية مدمرة. إنها لعبة أمم جديدة يصنعها الكبار ويموت فيها الصغار. ومادام العالم الأرضي لم تعد فيه أهداف كبرى يسعى إليها الشبان الحالمون بطبعهم، فسينتقلون إلى العالم الآخر ليحققوا الطموح الأكبر، تماماً كما كان يحلم الشيوعيون بالجنة فوق الأرض.. إلياس وأصدقاؤه يحلمون بالجنة في السماء... هؤلاء الشباب لم يقرؤوا كتابا واحدا عن الإسلام أو الجهاد أو مقاصده، ومع ذلك وضعوا أرواحهم فوق أكفهم، وسافروا إلى أرض ليست أرضهم، وماتوا أو أوشكوا على الموت لأنهم لم يفكروا في فهم العالم قبل تغييره، ولا اهتموا بفك تعقيداته قبل الدخول إليه...