لعبت المستكشفة "غيرترود بيل" دوراً عظيماً في رسم خارطة الشرق الأوسط كما نراه اليوم – إلا أن الفيلم الجديد للمخرج فيرنر هيرزوغ عن حياتها يفضل تناول الجانب الرومانسي على تناول الجانب التاريخي أو السياسي، كما يقول الصحفي في بي بي سي ماثيو أندرسن. يصفها البعض بأنها النسخة النسائية ل "لورنس العرب"، و"المرأة التي أسست العراق"، و يلقبها البعض ب "مس بيلّ". وقد أعادت الأحداث التي وقعت في الشرق الأوسط منذ عام 2000 الاهتمام بها، وهي المعروفة بأنها المعمارية، والمستكشفة، واللغوية، والرحالة، والمستشرقة، والكاتبة، والجاسوسة أيضا. كان لبيلّ تأثير هائل عند إعادة رسم خارطة المنطقة بعد سقوط الامبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى. وباعتبارها "سكرتيرة الشرق لبريطانيا"، ساهمت في وضع حدود العراق، وكتبت دستوره، وضغطت بقوة لمساندة الأمير فيصل، الذي تدعمه بريطانيا، لينصّب أول ملك على ذلك البلد الجديد. كانت ذات شخصية استثنائية، ونالت إنجازاتها إعجابا غير مسبوق بالنظر لمكانة المرأة في ذلك الزمن. لكن علينا ألا ننسى أن البلد الجديد الذي ساهمت في تأسيسه من تركيبة متعارضة من الأكراد والسنة والشيعة، كان بلدا غير مستقر. فقد انهار وتحول إلى دكتاتورية بعثية، وتعصف به اليوم تجاذبات وتوترات طائفية قاتلة. نتذكر "بيلّ" الآن لأننا نتساءل: من كان صاحب هذه الفكرة في المقام الأول؟ لم يهتم فيلم "ملكة الصحراء" بالمرّة بالتأثيرات التي خلّفتها إنجازات "بيلّ"، ولا بتداعيات التاريخ أو بالسياسة التي نفذتها هذه الامبراطورية أو تلك. من المؤكد أنه سيُقارن برائعة ديفيد لين لعام 1962، فيلم "لورنس العرب". فهذا الأخير يصوّر بعضاً من تلك الشخصيات ويجسّد بشكل درامي لحظات تاريخية مماثلة. إنها مقارنة يدعوك إليها فيلم "ملكة الصحراء" منذ لقطاته الأولى بتصوير سينمائي شامل لمناظر الصحراء. قصتان رومانسيتان فيلم هيرزوغ لا يقدم تعليقا عما يجري سياسيا على الإطلاق، فالمغامرة الاستعمارية بمجملها ليست إلا خلفية نابضة بالحيوية لحقبة مليئة بعاطفة مأساوية لقصتي حب فاجعتين في حياة "بيل". وهذا يمثل عيبا وفرصة ضائعة؛ إذ أن الفيلم يتناول حياة امرأة تحدّت تقاليد وأعراف زمانها، ويضعها في أكثر القوالب المبتذلة الممكنة. إنه فيلم عادي بشكل مخيّب للآمال من مخرجٍ تعوّدت أعماله أن تكون رائعة بغرابتها. لعبت "نيكول كيدمان" دور "مس بيلّ" وأجادته. إنها تدخل في نقاشات لاهثة على ضوء الشموع، وتلقي نظرات الازدراء والتحدي على المسؤولين المتعجرفين، وتنظر بحزن عبر النافذة، وتشدّ خصلات شعرها خلف أذنيها بحياء واحتشام. يلعب الممثل "جيمس فرانكو" دور أول حبيب لها، هنري كادوغان، وهو دبلوماسي مبتديء في السفارة البريطانية بطهران. يتودد كادوغان إليها عن طريق خدعة بلعب الورق ويستغل معرفته باللغة الفارسية في القرون الوسطى، ثم يتقدم لطلب يدها للزواج منه. لكن والدها يحرمها من الزواج منه، وتنتشر الشائعات بأن كادوغان مقامر. وبينما كانت هي في انجلترا تحاول إقناعه بالعدول عن رأيه، يتحطم قلبها بعدما قرأت ما جاء في رسالة وصلتها، فتبدأ "مس بيلّ" في خوض تجربة مثيرة عبر الصحراء. نرى بعض المنطق في تنامي ثقة "بيلّ" بنفسها، وألفتها للمناظر الطبيعية وللشعوب في تلك المنطقة، وللغاتهم وأسلوب تفكيرهم. إلا أنه عند مقابلتها للرائد تشارلز داوتي-وايلي (ديميان لويس، بطل مسلسل "الوطن"، نجد أنفسنا وقد عدنا أدراجنا إلى قصص الحب العاطفية من الطراز القديم. الرجل الآخر في حياتها هو تي. إيه لورنس- لورنس العرب- مع كونه أعزّ صديق مثليّ الجنس، أكثر من كونه مشروعاً للحب والزواج. لورنس (يمثله بطل فيلم "الشفق"روبرت باتيسن) غير مقنع، ومثير للسخرية نوعاً ما. وقد أدى أول ظهور له على شاشة الفيلم – وكان يرتدي كوفية على رأسه، وكان من الصعب التعرف عليه- إلى موجة من الضحك، وعلو الأصوات بين جمهور المشاهدين في برلين. ينتقل الفيلم من حدثٍ إلى آخر بأسلوب مألوف إلى درجة أنني كنت متأكداً طيلة وقت الفيلم أن المخرج هيرزوغ كان يحاول خداعنا. لقد عوّدنا هذا المخرج بحيويته على إظهار الأمور الغريبة في الحياة، ربما لسخافتها، وكنا نظن أنه في أية لحظة أنه سيدخل المشهد شخصية غريبة الأطوار، تدل عيناه مثلا على اليأس أو الذعر، أو أن سحلية مجنونة، على شاكلة مخلوقات هيرزوغ، ستخرج من رمال الصحراء وتغيّر مجرى الأحداث. إلا أنه لم تكن هناك أية مفاجآت. تجد لفتات بسيطة وقليلة بما يمكن أن يقال عنها أنها غريبة، وذلك بطريقة تصوير الحيوانات، وخاصة الجمال بشفاهها المتدلية ورؤوسها الدائرة: تدخل هذه اللقطات عنوة بشكل فكاهي بين مشاهد رصينة. وفيما عدا هذا، تغوص جميع الأحداث في طراز مبتذل لأفلام الحب الرومانسية. في نهاية الفيلم تماماً، نلتقي بشخصيتين جديدتين – فيصل وأخوه عبد الله، من شيوخ العائلة الهاشمية القديرة اللذين تم تنصيبهما من قبل البريطانيين ليصبحا حاكمين للعراق، وما يعرف الآن بالآردن. ويطلقان الحاكمان الجديدان، تزلفا، اسم "الخاتون" على "مس بيلّ". كما يسميانها "صانعة الملوك"، بينما تقوم هي بترتيب الأمور لهما ليقوما بدورهما في الحكم. وبقدر ما يتعلق الأمر بالفيلم، فإن ما سيتجلى في هاتين الدولتين لم يكن بأي حالٍ من الأحوال ذو شأنٍ أو أهمية. ثم ينتهي الفيلم بعرض الأسماء فوق رمال متحركة.