مدينة تلتهم أطرافها كل يوم لا تستطيع أن تظل نظيفة. تتوسع الدارالبيضاء بشكل يومي منذ عشرات السنين. العديد من المنعشين العقاريين اليوم، يقتاتون على ضواحي المدينة التي كانت في السابق عبارة عن دواوير وأراضي فلاحية. لكن رغم تعويض هذه الدواوير بعمارات سكنية، تسمى في الغالب بالسكن الاقتصادي أو الاجتماعي، لم تستطع المدينة أن تستبدل سلوك وثقافة سكانها بثقافة مدينية وتجعلهم يندمجون في حياة المدينة، إذ أن معظم سكان هذه المناطق التي التحقت بالمدار الحضري حافظوا على الأنشطة الفلاحية التي كانوا يمارسونها في السابق والتي تشكل مصدر قوتهم لاسيما تربية المواشي. هؤلاء «المدينيون» الجدد سيصطدمون بواقع تقلص الأراضي الفلاحية التي كانت توفر الكلأ لهذه الماشية، الشيء الذي دفعهم إلى ابتكار "نشاط مهني" جديد يسمى أصحابه ب«البوعارة» وهم أشخاص يتنقلون على عربة يجرها حمار ويعبثون في صناديق القمامة بحثا عن بقايا تصلح لإطعام قطعان الماشية. هذه الظاهرة زادت من حدة تفاقم مشكل انتشار النفايات في شوارع وأزقة وأحياء المدينة، وهي ظاهرة لم تكن البيضاء تعاني منها في السابق بهذه الحدة، غير أن العوامل التي ساهمت في تطور وتوسع المدينة كان لها تأثيرات سلبية على العديد من القطاعات، أولها قطاع النظافة ثم النقل والشبكة الطرقية، ثم باقي الخدمات التي تراجع بعضها وظل بعضها الآخر حبيس تدبير تقليدي لم يتطور رغم الطفرة التكنولوجية التي يعيشها سكان المدينة. الأسواق العشوائية هي ظاهرة أخرى أفقدت المدينة نظارتها. هذه الأسواق التي تملأ الأحياء الشعبية ومناطق وسط المدينة وتنتشر في الشوارع والطرقات، هي نتيجة مباشرة للهجرة القروية، إذ في ظل السنوات العصيبة التي عاشها العالم القروي بسبب عدم انتظام التساقطات وأيضا بسبب غزوة بعض مظاهر التمدن الزائفة للقرية، هاجر العديد من سكان هذه المناطق إلى المدينة بحثا عن فرصة عمل، وأمام عدم استيعاب المعامل لكل اليد العاملة توجه بعضها نحو قطاع البناء، في حين ظلت أعداد أخرى بدون مصدر دخل بعد أن قطعت صلتها نهائيا بالعالم القروي فاتجهت نحو أكبر قطاع غير مهيكل في المتروبول وهو القطاع التجاري، هكذا ظهر نوعان من "التجار الموسميين"، وهما تجار متجولون ثم باعة اتخذوا من بعض الفضاءات في الأحياء التي يقطنون بها أو بمناطق أخرى وسط المدينة وضواحيها مكانا لترويج بضاعتهم، في البداية كانت وسائل عرض هذه البضاعة عربات متنقلة تنتهي مهمتها مع نهاية اليوم مخلفة كميات هائلة من الأزبال وسط الحي الذي آوت إليه، لكن بعد ذلك تحولت إلى طاولات ثم أكشاك قارة مصنوعة بالكارتون والبلاستيك والأخشاب مشوهة العمران ومتسببة في انتشار النفايات. تدبير قطاع النظافة بالدارالبيضاء لم يكن في مستوى تطورها، وبالرغم من تفويضه إلى شركات خاصة ظلت هذه الشركات تعاني من شساعة أرجاء المدينة وامتدادها السريع، بحيث تتوسع مناطق تغطيتها كلما ازداد توسع المدينة مع يتبع ذلك من تنصل الشركات من تغطية الأحياء الجديدة، لأن دفتر التحملات لا يتضمنها. بل أكثر من ذلك، هذه الشركات لا تتعامل مع كافة الأحياء بنفس العدل في تدبير وجمع النفايات، ويبدو ذلك جليا في الآليات المستعملة مثلا في أحياء وسط المدينة وتلك التي نبتت في الضواحي أو الأحياء الشعبية. غير أن أهم عوامل استمرار اتساخ المدينة هو عقلية بعض المواطنين الذين يتغير سلوكهم بمجرد تجاوز عتبة البيت، ولا يتعاملون وفق نفس الشروط والقيود التي يفرضها فضاء المنزل بالفضاء العام. المجتمع المدني بدوره لم يستطع أن يتصدى بشكل قوي لهذه الظاهرة رغم الحملات التحسيسية والتوعية التي يقوم بها، والتي تظل حملات موسمية بسبب غياب التجهيزات وأدوات الاشتغال، واعتمادها بالأساس على العمل التطوعي، آخر هذه الحملات تلك التي تنوي جمعية «مغاربة ونفتخر» تنظيمها ابتداء من يوم الأحد القادم والتي قالت إنها ستشمل معظم أحياء المدينة. العشوائية التي تتوسع بها المدينة هي نفسها العشوائية التي يتم بها تدبير مثل هذه الخدمات، وكأن المسؤولين عن المدينة فوجئوا بتطورها السريع في الوقت الذي تحظى فيه كبريات المدن العالمية بتصاميم وتهيئة تراعي تطور هذه المدن على مدى السنوات المقبلة. في الدارالبيضاء لا يمكن إنكار التطور الذي عرفته المدينة على مستوى البنيات والتجهيزات، لكنه تطور أصبح متجاوزا بالنظر لحاجيات المواطن البيضاوي. محمد أبويهدة شارك هذا الموضوع: * اضغط للمشاركة على تويتر (فتح في نافذة جديدة) * شارك على فيس بوك (فتح في نافذة جديدة) * اضغط للمشاركة على Google+ (فتح في نافذة جديدة)