يروى، والعهدة على الرواة، أن سيدة من مدينتي حجَّت بيت الله، فتاهت بين الجموع الغفيرة. ضلت طريق العودة إلى حيث يجتمع ناسها. ظلت تسير دون عنوان إلى أن فطن لحالها رجال الأمن. سألوها من تكون. لا جواب. لم تكن المرأة تعرف القراءة ولا الكتابة. أمية مثل الكثير من نساء بلدي. أعادوا سؤالها: ما هي دولتك؟ لا جواب. احتاروا في أمرها. من تكون هذه المرأة العجوز؟ كيف السبيل إلى دلها على بني بلدها؟. سألوها من جديد: ما دولتك؟ لا تعرف. أتوا لها بمجموعة من الأعلام علها تتعرف على علم بلدها. لا جواب. لم تستطع فك شفرات الألوان. تاهت بينها. سألوها: ومن يكون رئيسك؟ هنا، كما لو أن السؤال أحيا فيها عمق الذاكرة، لمعت عيناها. كلمة "رئيس" هاته سمعتها كثيرا حولها… في مدينتها. شعرت بأن لحظة الخلاص حلت. من يكون الرئيس؟ فجأة، أجابت وهي تكاد تقفز من الفرح: "مبديع"… تروى الحكاية، طبعا، من باب التفكه والتنكيت والسخرية من رسوخ بعض الأسماء- الظواهر دون غيرها في ذاكرة الناس حد الاعتقاد بأنها وجدت لتظفر دائما- دون غيرها- بالرهان الانتخابي (وليس السياسي الحزبي). علاقة القرب "الوجداني" هاته مستحبة في التدبير السياسي لأنها تساعد على تسهيل التواصل بين المواطن والمسؤول عن شأنه المحلي، وهي العلاقة التي نراها متجسدة مثلا في مدن وبلدات البلدان الديمقراطية حيث قد يعرف العمدة أفراد بلدته أو مدينته الصغيرة بالاسم، وحيث باب مصالحه مفتوح للجميع وفي أي وقت. في مدننا الصغيرة وبلداتنا، يعرف المواطنون منتخبيهم ولا يعرف المنتخبون مواطنيهم إلا عندما تفرض الحاجة الانتخابية التقرب منهم في جولات ميدانية مشفوعة بالنفاق التواصلي. انتفاء علاقة القرب هاته من جانب المنتخب هي التي تدفع إلى الاحتجاج – بطرق تبدو للبعض شعبوية – حين الغضب من المردود التدبيري المحلي. ما جرى بناحية جمعة سحيم بآسفي لم يكن إلا تجليا معبرا عن فشل تلك العلاقة وانتفاء الانسجام التي يفترض أن يكون بين المواطن والقائم على شؤونه. توثيق فعل فضح الغش الذي طال بناء طريق ثانوية لم يكن إلا من باب أضعف الأيمان أمام انسداد قنوات التواصل. وإذ تتحول الحكاية من "حادث عارض" إلى حكاية تضامن وطني مع الشاب الذي صور فيديو "فضح الغش" بعد أن قُبض عليه ووضع السجن بتهمة قيل إن موضوعها هو "القذف والسب…"، فلأنها صارت حكاية "ظلم" و"اعتداء" تورط فيه صاحب الدعوى والجهات الرسمية، لتظل الحكاية محتفظة بكل عناصر وجودها وتطورها التي لا تختلف في جوهرها عن تلك التي دفعت بصاحب الفيديو إلى القيام بما قام به. وكما لو أنه يراد لحكاية السخرية من الوطن وأهله هاته أن تعاد وتعاد مرات… وكما لو أن قدرنا أن يعبث السياسيون بنا إلى الأبد، علمنا بأن البعض منهم ركب على القضية وحملها إلى البرلمان. في اللحظة نفسها، كان عبد الرحمان، صاحب الفيديو، قد غادر السجن والتف حوله جمع من المتظاهرين الذين وثقوا وقفتهم التي رددوا فيها شعارات حقوق الإنسان والحريات في مشهد قد يكون تجاوز حدود الإدراك عند عبد الرحمان نفسه. وهنا لابد من وضع سؤال الغاية من وراء الركوب على الحادث بعد أن كان ما كان. الجواب واضح، ولا داعي للزيادة في التوضيح. لكن، أليس في الصورة ما يثير الاستغراب؟ ألم تُعكس الأدوار في حكاية الزفت هاته؟ أين آليات مراقبة العمل الجماعي؟ ولماذا يراد للحكاية أن تؤول إلى قضية سب وقذف بينما الجرم أفدح من أن يستحمل التأويل؟ ومع كل هذا يستمر ذوو التأويل الآخر في تأويل كل القضية على أنها شعبوية ليس إلا وأنها مبالغة في تبخيس المؤسسات وتشويش بليد على العمل الجماعي… إلخ. هي نفس الأصوات التي تبنت نفس المواقف في قصة "جوج ريال" وقصة "22 ساعة عمل" وقصة معاشات البرلمانيين وأجور الوزراء وتعويضاتهم وقصة الأساتذة المتدربين… هم أنفسهم الأشخاص الذين يريدون أن يوهموا الجميع بأنهم خاطئون وهم الوحيدون –فقط- الذين على صواب، الذين يعتقدون أن تدبير الشأن العام قضية دولة لا ينبغي الخوض فيها بشعبوية الرعاع والحال أن الشأن العام هذا هو قاعدة هرم خدمة الإنسان والوطن والبقية تفاصيل. وما دام حديثي عن الشعبوية هاته التي صارت تهمة جاهزة نرمي بها من أردنا وندافع بها عمَّن أحببنا، فلا بأس أن أذكر منظريها بأن حلقة الأحد الماضي من برنامج "كابيتال"، الذي يبت على قناة "M6″، تناولت بالبحث والتمحيص والتدقيق والحساب ما يشبه مواضيعنا هاته: أجور وتعويضات بعض المنتسبين إلى بعض مؤسسات الدولة الفرنسية دون أن تكون هذه المؤسسات ذات دور يُذكر في تدبير الشأن الوطني والامتيازات التي ينعم بها كبار السياسيين حين تقاعدهم مدى الحياة وكيف أن بعض هذه الامتيازات لا يستند إلى نص قانوني. وطبعا، التقى الصحافيون سياسيين ومسؤولين معنيين بهذه الوضعية وسألوهم عنها، وأجاب هؤلاء بما أجابوا وبرر البعض وضعيته بما رآه مناسبا للتبرير حتى ولو كان لا يقتنع بتبريره… لكن، لا أحد رفع دعوى ضد طاقم البرنامج، ولا أحد اتهم الصحافيين بالشعبويين ولا شيء مما يقع عندنا وقع عندهم. سعيد الشطبي