لن نتمكن من مشاهدة "بنات روزا"، مشروع الفيلم المقبل لمحمد خان، خسارة كبيرة أتصور، لأن مخرج "زوجة رجل مهم" كان سيقدم رؤية مختلفة، أكيد، عن أي مخرج آخر سيتولى مستقبلا اخراج هذا السيناريو.. فكم من الأفلام كانت في انتظاره يا ترى؟.. محمد خان مخرج، أكثر ما يعجبني فيه، "واقعيته"، و لا أتحدث هنا عن موجة "الواقعية الجديدة"، لا، أنا أتحدث عن رؤيته للأفلام و طريقة صناعتها، و الهدف من اخراجها الى الوجود.. لما تسأله عن التتويج، خصوصا عندما لا ينال فيلم من أفلامه أية جائزة، يرد عليك بارتياح: "ان الأمر لا يزعجني"، و يضيف بأنه لا يصنع جميع أفلامه من أجل المهرجانات أو الحصول على الجوائز. وعن اهتمامه بتحقيق فيلمه لمداخيل يجيب: "بالطبع أفكر في تحقيق الفيلم للإيرادات، وإلا لماذا نصنع الأفلام؟ ولماذا يضع المنتجون أموالهم فيها؟ ولكنها في النهاية مسألة أولويات، أنا أرغب في صناعة فيلم جيد فنيا يتفاعل معه الجمهور، وإن نجحت في ذلك سيحقق الإيرادات بالضرورة". هذه الرؤية لما يجب أن تكون عليه السينما، أتقاسمها مع صاحب "مستر كاراتيه"، مائة بالمائة، فصناعة الأفلام لا يجب أبدا أن تكون محكومة دائما بهاجس المهرجانات و هوس الجوائز. رغم أنه ولد في القاهرة، من أم مصرية و أب باكستاني، الا أنه لم يحصل على الجنسية المصرية الا وعمره واحد و سبعين عاما!!.. وهو شيئ حيرني دائما، فمحمد خان كان مصريا في أفلامه بدرجة لا تصدق، و منذ بداياته.. فكيف لدولة أن تصاب بالعمى لهذه الدرجة، أن تتكلس عروقها و أن تستمر في اعتبار منح أحد أبنائها الأبرار جنسيتها أمرا غير مستعجل.. طيلة سبعة عقود؟.. "ضربة شمس".. غالب الظن (!).. "ضربة شمس"، كان فيلم محمد خان الأول، نجاح باهر، نور الشريف عندما قرأ السيناريو لم يتردد في تولي الانتاج، لقد فهم بذكائه المتقد أنه يراهن على حصان رابح.. وهكذا ربح معنويا عندما قام بدور البطولة في الفيلم، و ماديا كمنتج لفيلم عرف اقبالا جماهيريا كبيرا.. بالنسبة لي، يعد فيلم "خرج و لم يعد"، أول الأفلام التي شاهدتها لمحمد خان، لم أكن أعرفه بالاسم و المسار، عندما استمتعت بأداء بطل القصة، يحيى الفخراني، مرتين على القناة الأولى المغربية، لكن هذا الفيلم كان اكتشافا حقيقيا، ليس ليحيى الفخراني فقط بأداء باهر، لكن أيضا للجميلة ليلى علوي، في دور "خيرية" التي ستوقظ في "عطية" (وعبره كثير من الناس)، الرغبة في التقرب أكثر، و "تجريب" الجمال الطبيعي البسيط.. لقد صور محمد خان الريف المصري في هذا الفيلم، بشكل "رومانسي"، مقابل المدينة التي "خرج" منها البطل، و التي صورها كفضاء جاف يخنق و يصعب العيش فيه، و سيقنعك مع مرور الأحداث، أن الريف هو عنوان الجمال، خصوصا عندما تحضر "خيرية"، و أن المدينة هي عنوان القبح، كما سيقدم لك الريف كمشتل للأمل و البساطة و السعادة و الدعة و السكينة، و المدينة كمرتع للاحباط و التعقيد و البؤس و القسوة و الضجيج.. يحيى الفخراني يلعب في الفيلم دور الموظف المطحون الذي تصله مياه ملوثة في "حنفيته"، و الخطيب الذي تفسد عليه أم خطيبته هذا "الامتياز"، و المواطن المرهق بتلوث بيئته سمعيا و بصريا، بين دخان السيارات و قمامة الناس المرمية في طريقه اليومية الى العمل.. و تشعر أن محمد خان يريد منك، باستعماله لتقنيات اخراجية معينة و اختياره لاضاءة دون غيرها و زوايا تصوير محددة، أن تكره "عيشة" بطله، حتى "تنشرح" بعدها، لما سيقرر "عطية" الذهاب للقرية بغرض بيع قطعة الأرض، و استغلال ثمنها في شراء شقة، يتزوج فيها مع خطيبته التي تنتظر منذ سبع سنوات.. "انصلاح الحال" (!).. محمد خان في فيلم "خرج ولم يعد"، لا يقدم "حلا" لقبح المدينة و صعوبة العيش فيها فترة الثمانينات ببلده، و لا ينصح "الجميع" بالانتقال الى القرية، الأمر لم يكن، كما أظن، بهذا الطرح الفلسفي الجذري، لا، المسألة كانت أبسط من هذا كله، لقد كان الأمر يتعلق بالبحث عن الجمال و عن الخلاص الفردي حيث يوجد، لا حيث نحسب بحكم العادة.. أنه موجود.. منذ فيلمه الأول، وصولا لفيلمه الأخير "قبل زحمة الصيف"، مرورا ب "الحريف"، دون نسيان "زوجة رجل مهم" و "الرغبة" و "الثأر" و "الغرقانة" و "يوم حار جدا" و "بنات وسط البلد" و "أحلام هند و كاميليا" و "فتاة المصنع"، وأفلام أخرى عديدة.. صنع محمد خان تاريخا رائعا كمخرج و ككاتب سيناريو أيضا.. ذهب "حريف" آخر اذن، خرج بملامحه الطيبة من هذه الدنيا.. و لن يعود..