تقديم: لماذا التصقت كل اشكال الالام والمعاناة بالحي المحمدي؟ ولماذا ظل أبناؤه يحملون على ظهورهم صخرة سيزيف ويحاربون طواحين الهواء لوحدهم،دون أن يحظوا بالتفاتة معنوية ولو حتى برد اعتبار وجبر للضرر؟ كريان سنطرال الحي المحمدي، صنع رجالاته ونساؤه ملامح بطولية وطنية ، قاوم شتى أنواع الظلم والقمع إبان فترة الإستعمار الفرنسي وبعده. رجالاته ونساؤه أعطوا أكثر مما أخذوا، عانوا الكثير، وذاقوا معاناة كثيرة، لكنهم لم يخونوا هذا الوطن الحبيب، بل تشبثوا بأرضه الممتدة من طنجة إلى لكويرة ، وتلمسوا تربته الدافئة الخصبة المعطاء، واستنشقوا هواءه النقي. ظلوا هناك في حيهم، يصنعون ماعجز عنه الآخرون. لم يضعوا أيديهم على قلوبهم، ينتظرون، بل ثابروا وكافحوا داخل براريكهم ومنازلهم يصنعون التاريخ، تحسسوا قلوبهم، وتتبعوا أحاسيسهم الجياشة لكتابة تاريخ حافل بالإبداعات والمواقف الثابتة من أجل هذا الوطن. كريان سنطرال اجتمعت فيه كل التناقضات، استطاع أن يلم شمل العديد من الثقافات على امتداد هذا الوطن. هو ذاك الفردوس الذي قدمت إليه ساكنة جميع المناطق المغربية بحثا عن لقمة عيش ممزوجة بألام ومعاناة وأنين، أشرت لميلاد أجيال حولتها إلى إبداع وخلق بقوة الأحاسيس الصادقة. سنحاول من خلال هذه السلسة إبراز تاريخ هذا الحي المكافح، من خلال نفض الغبار عن الأماكن التي ظلت شامخة، رغم مرور الزمن، وإبراز ملامح بعض الرجالات التي كتبت تاريخ كريان سنطرال بمداد من ذهب. هي أسماء عديدة، حفرت في ذاكرتنا، سنعيد صورها بطريقة الفلاش باك، نستحضر كرونولوجيتها بمقاربة خاصة، مؤطرة بإحساس وعواطف جياشة. سنسلط الضوء على أماكن ركنت في الذاكرة ورجالات صنعت التاريخ المغربي. ........................................................ ثانوية عقبة بن نافع أو (البرد)، كما يحلو لأبناء الدارالبيضاء والحي المحمدي على الخصوص تسميتها. هي معلمة تربوية، ثقافية، التصقت حكاياتها بالنضالات والمعارك النقابية التي تفرخت من رحمها العديد من الفعاليات التربوية، الثقافية، الفنية، الإقتصادية والسياسية. هي ميزان الحرارة الذي كانت تقاس به درجة الإضرابات والحركات الإجتماعية. منها تنطلق الشرارة الأولى للإحتجاجات على الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية ، والمطالبة بالعيش في ظروف مناسبة. كانت بمثابة جامعة قائمة الذات. لها طابعها الخاص . أقسامها مثل المدرجات. أساتذتها محاضرون، وإداريوها تطبعوا مع تحركات التلاميذ ونضالاتهم. هذه الثانوية كانت تضم جميع فئات المجتمع من مختلف الطبقات الإجتماعية، في غياب التعليم الخاص الذي كان يستقطب أنذاك التلاميذ غير النجباء. داخل حرم هذه المؤسسة التعليمية، كانت تمارس طقوس خاصة، التصقت بالحركات الثقافية، الرياضية، النقابية التي يقوم بها معظم التلاميذ، بتأثير واضح من بعض الأساتذة وتلاميذ مستوى البكالوريا. هندسة هذه المؤسسة التعليمية، فريدة. فهي عبارة عن بنايات على شكل عمارات، ذات طابق سفلي وطابق علوي، متراصة أمام ساحات شاسعة. بنيت على مساحة كبيرة جدا، تضم ملاعب رياضية، ومضمار للجري، ومساكن وظيفية خاصة بالإداريين. بالإضافة إلى قاعة خاصة للعروض، وداخلية تضم التلميذات القادمات من المدن الاخرى. ساحات متعددة كانت تقام فيها عدة أنشطة ووقفات احتجاجية وحلقيات، يديرها تلاميذ بحس سياسي ونقابي وجمعوي، ينتمون لتنظيمات سياسية مختلفة. هذه الحركية التلاميذية ، لم تكن تشكل أي ارتباك لدى إدارة الثانوية، تعايش معها الجميع، طالما أنها كانت تمر في أجواء مسؤولة، للمطالبة بالحق في التعبير والتحصيل وغيرها من المطالب التي كان يجتمع حولها جميع التلاميذ. وغالبا ما كانت هذه الإحتجاجات تأخذ منحى أخر، عندما يراد بها أن تكون خارج أسوار المؤسسة، وتمتد إلى دروب وأحياء الحي المحمدي. خلال فترة السبعينات، التصق جيل ذهبي بمؤسسة "عقبة بن نافع"، استطاع أن يؤسس لفترة تاريخية عاش خلالها المغرب فترات احتجاجية ونضالية. وكان الحي المحمدي، جزء منها، وبؤرة هذه الحركات التلاميذية، التي كانت تخرج في مسيرات احتجاجية، تحرك مشاعر المواطنين. أغلب هذه الوقفات والمسيرات الإحتجاجية، كانت بسبب الأوضاع الإجتماعية المزرية، أو بسبب التضامن مع الإضرابات التي كانت تقوم بها أسرة التعليم والعمال، وكانت تجد لها إقبالا من طرف جميع التلاميذ الذين يجدون أنفسهم في صلب المعركة، يتحدون ويتفقون على الخروج خارج أسوار ثانوية "عقبة بن نافع" في وقفات تضامنية، تدوم في بعض الأحيان أسبوعا كاملا ، حسب نوع المطالب. تلاميذ ثانوية "عقبة نافع"، عاشوا لحظات إضراب 1981، وشاركوا في الوقفات والمسيرات الإحتجاجات، وكانوا يعتبرون أنفسهم جزء لايتجزأ من أبناء هذا الحي المناضل. من بين الطرائف التي مازال أبناء الحي المحمدي ، وخاصة تلاميذ "عقبة بن نافع" يتذكرونها، أنه في أحد الأيام كان بعض تلاميذ مستوى البكالوريا يمارسون هوايتهم المفضلة، شرعوا يداعبون الكرة بأرجلهم ، أمام الباب الرئيسي، وفجأة سقطت الكرة داخل المنزل الوظيفي للحارس العام. ولما طلبوا من هذا الأخير إسترجاعها، رفض رفضا تاما، وتلفظ بكلام لم يعجبهم. عندها سمع صفير ورفعت شعارات تنديدية، ولم تمر سوى خمسة عشر دقيقة، حتى التحق العشرات من التلاميذ بموقع الحدث، ونظموا وقفة احتجاجية حاشدة، قبل أن يتدخل المدير لتهدئة الأوضاع، واضطر إلى الجلوس مع ممثلي التلاميذ، وفتح معهم حوارا، قدمت خلاله لائحة تضم جميع المطالب ، وعلى رأسها إرجاع الكرة إلى أصحابها. ثانوية "عقبة بن نافع" (البرد)، كانت متميزة بأساتذتها وتلاميذتها وإدارييها. وكان التحصيل الدراسي بها يسير وفق مقاربة تشاركية بين الجميع، تتم بشكل سلس ، حسب الظروف والإمكانات المتاحة، يلعب فيها التلاميذ دورا مهما، يتحملون مسؤولياتهم، يتمتعون بحرية التعبير، تساهم إدارة المؤسسة في ذلك، وتساعدهم على خلق أندية داخلية والقيام بندوات وأنشطة إشعاعية، وتفتح المجال أمامهم لتنظيم مسرحيات وسهرات فنية، وخلق مجلات حائطية وخرجات ورحلات ثقافية وترفيهية، ومباريات رياضية. تستمد هذه المؤسسة التعليمية قوتها من محيطها الخارجي. فهي تقع وسط أحياء شعبية، تؤثث فضاءات الحي المحمدي، الغني بتنوع ثقافته وتقاليده العريقة، وتراكماته النضالية منذ فترة الحماية والإستعمار الفرنسي، إلى ما بعد ذلك. وبرجالاته وفعالياته الثقافية والفنية. فكان من الطبيعي أن يؤثر هذا المحيط الخارجي على ثانوية "عقبة بن نافع"، التي يعتبرها البعض مجمعا صغيرا للحي المحمدي، تفرخت منه العديد من المجموعات الموسيقية، منها السهام وغيرها، ومسرحيين ورياضيين واقتصاديين ورجال سلطة.
ثانوية (البرد) بالنسبة للمسؤولين بوزارة التربية الوطنية ، تعتبر نقطة سوداء ومحطة تأديبية بالنسبة للأساتذة المغضوب عليهم، والذين كانوا ضمن اللائحة السوداء لدى الأجهزة الإستخباراتية. لكن وبالرغم من كل هذا الإقصاء، كان هؤلاء الأساتذة نموذجا للمواطنة الحقة والعمل الجاد، تعلمنا معهم أشياء كثيرة، وكانت الدروس التي يقدمونها عبارة عن موائد مستديرة وندوات ومحاضرات. مازلت أتذكر دروس الفلسفة التي تعلمناها على يد الأستاذ الرائع "موليم" الذي كان كلما حل بثانوية عقبة بن نافع إلا والتأم حوله العشرات من تلاميذ مستوى البكالوريا، لحضور دروسه القيمة التي كان يقدمها لنا. فكانت حجرة الدرس تمتلئ عن أخرها، فتغدو مثل مدرج. وبسبب هذه الدروس، كانت نسبة كبيرة من التلاميذ المقبلين على اجتياز امتحان البكالوريا، يختارون مادة الفلسفة عوض مادة الفكر الإسلامي. أساتذة آخرون كانوا بالنسبة لنا قدوة، من خلال توجيهاتهم ونصائحهم ومساعداتهم، إن داخل المؤسسة، أو خارجها، تولدت بيننا علاقات جد قوية، أثرت إيجابا على التحصيل الدراسي. كل هذه التوجيهات والنصائح، كانت تنفذ على أرض الواقع، من خلال تنظيم ندوات فكرية ثقافية حول مواضيع مختلفة، كان أبرزها قضية المرأة وحريتها، التي خلقت نقاشات حادة بين مؤيدين ومعارضين. كما كانت القضية الفلسطينية محط اهتماماتنا، كنا ننظم وقفات احتجاجية ، نندد من خلالها بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ونتضامن مع المواطنين الفلسطينيين، ونحيي ذكرى الأرض. كما أحتلت القضية الوطنية مكانة خاصة لدينا. بالإضافة الى القضايا العربية الأخرى. كنا نستضيف فعاليات مغربية وفلسطينية لإلقاء عروض بالمناسبة، تتخللها نقاشات. وفي الجانب الثقافي والفني، كانت تقدم مسرحيات ذات طابع اجتماعي وسياسي، في قالب هزلي، بالإضافة إلى سهرات فنية، يحضر لها أعضاء من مجموعات ناس الغيوان، لمشاهب، السهام ولرفاك وتكادة. من الناحية الرياضية، كانت ثانوية عقبة بن نافع تحتل مراتب عليا في جميع الرياضات وخاصة كرة القدم، عرفت تألق مجموعة من الأسماء، التي التحقت بفرق معروفة، كالإتحاد البيضاوي (الطاس)، الرجاء اابيضاوي، الوداد البيضاوي، نجم الشباب، النهضة البيضاوية، الأهرام، الترجي ، وغيرها من الفرق الرياضية التي كانت معروفة في ذلك الوقت. ثانوية "عقبة بن نافع" المعروفة لدى أبناء الحي المحمدي بإسم (البرد) BIRD، نسبة للبنك الدولي للإنماء والتعمير. وهي مؤسسة تكلفت ببناء هذه المعلمة التربوية في إطار تعاوني. في الجانب الإجتماعي،كانت تربط بين تلاميذ الحي المحمدي علاقات طيبة مع زملائهم المنحدرين من المدن الأخرى، الذين قدموا إلى مدينة الدارالبيضاء للتحصيل الدراسي. خلال العطل الدراسية القصيرة، بمناسبة الأعياد الدينية والوطنية،كان بعض هؤلاء التلاميذ يتلقون دعوات لمشاركة أبناء الحي المحمدي أفراحهم . يعيشون معهم طقوس هذه الأعياد داخل منازلهم، رفقة عائلاتهم. نفس الشيء كانت تقوم به التلميذات لإشراك زميلاتهن المقيمات بالداخلية. ثانوية "عقبة بن نافع" جزء لا يتجزأ من ذاكرة الحي المحمدي، ولحظات لاتنسى بالنسبة لأبنائه. كانت مؤسسة من مؤسسات التنشئة الإجتماعية، بالإضافة إلى دار الشباب، ودروب الحي المحمدي، والأسرة التي ساهمت بشكل واضح في تكوين شخصيات أجيال، ساهمت في بناء هذا الوطن الحبيب.