أثناء جولة عائلية ببعض مدن الأطلس المتوسط خلال العطلة الصيفية الأخيرة, سألني أحدهم, وقد دخلت معه في دردشة قصيرة : "من أي مدينة أنت؟", ولما قلت له إنني أنحدر من مدينة اليوسفية, سكت برهة, وقطب جبينه, ليسألني سؤال من سمع هذا الاسم لأول مرة: "واش هاذ اليوسفية في المغرب؟". لا أخفيكم سرا أنني ظننت, بداية, سؤال الرجل تهكميا, لكن سياق حديثنا المتسم بالجدية جعلني أطرد هذا الافتراض, وأرد عليه بذات لهجته: "أي نعم, وبالضبط بجهة مراكشآسفي". بعد يومين تكررت ذات الواقعة مع شخص آخر, على بعد بضع عشرات الكيلومترات من مكان الواقعة الأول، سألني نفس السؤال عما إذا كانت اليوسفية موجودة بالمغرب, وأجبته بذات الإجابة التي خصصتها لسابقه, قبل أن أودعه حاملا عبء تساؤل ثقيل عن سبب هذا الغياب ليتيمة المدائن من ذاكرة كثير من المغاربة, بما جعلها إنونيما مجهولة الهوية, وأنا أتخبط في تساؤلاتي, وأقلب أوجه ودواعي هذا اللا وجود, نطت إلى ذهني قصة مماثلة حكاها لي صديق قبل سنة, حين التقى بمواطن لبناني بمدينة مراكش, حيث, وبمجرد ما كشف له عن انتمائه لمدينة اليوسفية, رد عليه قائلا: "أنت إذن من العراق". وجدت في هذه القصة بعض الجواب, وخلصت إلى أن ما تحظى به يوسفية العراق من تغطية إعلامية جراء تعرضها للقصف والغارات, وسيلان دماء أبنائها, وتحولها إلى مدينة أشباح جعلها تنال حظوة الشهرة, وتحتل مكان الصدارة في ذاكرة المواطن العربي, لتبقى اليوسفيات الأخرى نسيا منسيا, لغياب وجود كل ما من شأنه أن يعرف الناس بها, وأن يخرجها من دائرة الظل, إلى دائرة الأضواء الكاشفة. حمدت الله على نعمة النسيان هذه, وشكرته سبحانه على فضل السلم والسلام الذي ننعم به, والذي يجعلنا في منأى عن عدوان الطائرات الحربية والصواريخ المزودة بالغازات السامة القاتلة والقنابل العنقودية, قبل أن ينطلق من داخلي صوت مدو قطع علي حبل أفكاري, قال لي مواسيا بلهجة إيرونية: "كفاك من تعزية النفس, ومن حديث السلم والسلام, إذا كنت وأهل مدينتك تنعمون بالأمن والسلام الذي تحدث نفسك عنه, فكيف نسيت أو تناسيت أنكم تعيشون أجواء حرب غير ظاهرة؟". أخذت "تصريح هذا الخاطر" على محمل الجد, واستحث نفسي للبحث عن مظاهر هذه الحرب, ودون كبير عناء حصلت على بغيتي عندما صارت هذه المظاهر تتراقص أمام مخيلتي في شبه استعراض، قبضت عليها الواحدة تلو الأخرى، قبل أن أضعها رهن إشارتكم، قرائي الكرام، في "متحف" آذن لكم أن تقوموا بجولة في أرجائه، ل "تتملوا" بعينة من تحفه الناذرة: -- حفر كبيرة تتخللها طرق متآكلة تصيب عابرها بالتعب النفسي والانهيار العصبي, وهو يراوغها بسيارته أو دراجته دون أن يتمكن من اختراق خط دفاعها السميك. -- مؤسسات صحية تحولت إلى محطات طرقية لتصدير المرضى خارج الحدود. -- حجرات دراسية مهترئة بمرافق صحية في الهواء الطلق. -- مجرمو حرب لا يتورعون عن المباهاة والافتخار بجرائمهم الحربية التي يوظفون فيها الذخائر البوندكوموندية باحترافية عالية. -- ميزانيات مجالس تصرف في الظلام الدامس, بعيدا عن أعين المتابعين والفضوليين. -- منتزهات "دوخوا رؤوسنا" بروعتها العالمية, قبل أن تتمخض وتنجب حيطانا تخفي وراءها الأزبال والقمامة. -- لاهثون وراء المصالح الشخصية الضيقة, مستعدون لبيع شرفهم وشرف مدينتهم, أو إرساله إلى الجحيم, بدون مقابل أحيانا. -- مداخل مدينة تشهد على بؤسها وهوانها على الناس من ذوي القرار. -- غبار متطاير يجعل كل من فتح نوافذ منزله طلبا لتهويته, يعض على يديه من الغيظ، حين يجده قد اقتحم كل مرافقه واستقر فوق أثاثه بأريحية، ودون استئذان. أليس هذا وجها آخر لحرب ضروس أدواتها معاول تهدم وأخرى تهمش, وأياد آثمة تتسلل لسرقة ما يمكن سرقته من تحت الأنقاض, وبطون جائعة لا تكاد تتوقف عن السعي وراء الافتراس بأفواه مفتوحة عن الآخر بين يوسفية العراق, واليوسفية الملقبة بيتيمة المدائن, قاسم اللفظ المشترك, وقاسم المصير المأساوي, لكنهما يختلفان في أن الأولى تحتضر تحت أشعة الكاميرات, في حين تلفظ الثانية أنفاسها وهي تئن أنين الجريح المثخن بالجراح, دون أن تبكي عليها الأرض, ودون أن تنال حظ الحديث عن لحظات حياتها الأخيرة.