على حين غرة، وجدت أمامي السيد المدير، على شفتيه ابتسامة مرتبكة، و وجهه يعكس توترا و حيرة، لم يمهلني حتى بادرني: تكلم أسي عبد الرحيم، السيد الوزير ينتظرك في مكتبي. يا لطيف يا لطيف، الوزير، هكذا و دون مقدمات، ماذا عساه يريد من هذا المدرس النكرة، لست أكون عندهم إلا رقمين صماوين: رقم بطاقة ورقم وظيفة، فهل تراني صرت أملأ حيزا في الكون و صار لي كيان و إسم حتى يرى لي السيد الوزير ذاته، وجودا و كفاءة لملاقاته و الحديث معه. سبقني المدير مسرع الخطى و لحقته و رأسي تدور كالذي يتخبطه الخمر من السكر، هل يليق بالوزير و هو وزير أن يأوي إلى تلك الحجرة المغبرة و البائسة المدعوة مكتب المدير، حسنا، لقد ألفيته جالسا يحتسي شيئا من الشاي أو القهوة أو لا أدري ماذا، متأهبا للمصافحة و الكلام: - مرحبا سي عبد الرحيم، تفضل إنه يذكرني بالإسم، لا بد و أنه قد جن، و لربما أنا الذي جننت، هذا ليس المغرب، إنه بلد على سطح عطارد، فحتى السويد لا يأتي الوزير بنفسه ليستقبل مرؤوس مرؤوس ... مرؤوس مرؤوسه. - شكرا سيدي الوزير، شرف لي أن تطلبني للحضور عدل جلسته و وضع رجلا فوق الأخرى، رفع رأسه يحدق في سقف الغرفة البائس، ثم وجه نظرته كالسهم نحو المدير: - سمحلينا بواحد الدقيقة، بغيت نداكر معاه على انفراد انسحب المدير مطأطأ الرأس، أغلق باب المكتب دون أن يلتفت حوله، هنالك رمقني الوزير شزرا، كأنه ضارٍ سينقض على فريسته : - علاش ما بغيتيش تقري الفيزياء، ياك تا تخلص، بإمكاني نخرج عليك ونسيفطك للزنقة، دابا هانا جيتك برجلي، بغيتي تحشم تبارك الله، ما بغيتيش غادي نخلي دار بوك. لا أعرف لماذا تذكرت حكاية الصحفي الذي استقبل ضمن مجموعة من زملائه من طرف وزير الداخلية، و لم يخرج من ذلك اللقاء إلا و هو مهدد بخليان دار بوه، "نخلي دار بوك" هو أحد الجينات التي تأسست عليها الدولة المغربية منذ الزمن الغابر، المهم، أيقظني هجوم الرجل المفاجئ من تلك الغفوة، ثم سألت نفسي هل سيلتقي الوزير بمئات المدرسين رفضوا تدريس مواد ليست من تخصصهم، ولم يخضعوا لأي تكوين في طرق تدريسها، هذا لعمري وزير –رغم هجومه- يستحق الاحترام. - لا سيدي الوزير، أنا لم أرفض، طلبت الخضوع لتكوين قبلي فقط، حرصا على تعلم التلاميذ بشكل ملائم، ثم لماذا أحرم تلاميذي من مادة أتقنها، و أدرسهم مادة لا أعرف كيف تدرس، ثم من قال أن هذه مادة مهمة و هذه غير مهمة، ثم لماذا كونتموني في مادة لستم بحاجة إليها، ثم لماذا لا تقومون بإلغائها رسميا و تتركون لنا اختيار تخصص آخر، ثم ... قاطعني، متجهم الملامح : آسي، راحنا في أزمة، فين المصلحة العامة، فين حب الوطن، فين سقراط فين أفلاطون... - سيدي الوزير، قبل عشرين عاما، اجتزت امتحانا رفقة صديق لي، كي نصبح أساتذة فيزياء، اجتاز صديقي الامتحان بنجاح و فشلت أنا، التحق صديقي بمركز التكوين، درس سنة طرق تدريس المادة، زار مؤسسات مختلفة للقيام بدروس تطبيقية، رافقه أساتذة متمرسون و نصحه و صحح أخطاءه مدربوه، اجتاز امتحان التخرج بنجاح، التحق بمقر عمله للعمل سنة كاملة كأستاذ متدرب في مادة الفيزياء، خضع لامتحان الكفاءة المهنية بحضور لجنة معتبرة، أجازته، و حينها فقط أصبح أستاذا رسميا لمادة الفيزياء. بعد عشرين عاما، عشرون عاما، صرت بضربة واحدة، أستاذا للفيزياء، بعدما نسيت كل شيء عن الفيزياء، و لم يبق في ذاكرتي إلا الخيالات، و أنا في الوقت ذاته مدرس ناجح، لكن، في المعلوميات. قاطعني مرة أخرى، و هذه المرة بنبرة مفعمة باللطف، يبدو أن كلامي أقنعه بعض الشيء: - دابا أولدي، حنا كنطلبو منك غير تعاونا مؤقتا، غادي نحلو هاد المشاكل في القريب العاجل، عندك الحق، هادشي صعيب و خايب للتلاميذ، و لكن اللهم يقراو شي حاجة و لا يبقاو بلاش، و أذكرك بقول الشاعر: إذا لم تكن معي و الزمان شرمبرم فلا خير فيك و الزمان ترللي حاصرني هذا الشرمبرم وارتجيت تلك الترللي، خصوصا و تلك العبرات الناضحة من عيني وزير يكاد الدمع ينفجر منهما، أنهارا أنهارا. ماذا عساي أقول، و الوزير بنفسه "تيرغبني"... وقف الوزير بحركة خاطفة، وضع يديه فوق رأسه، و صرخ قائلا: ها العار ديال ربي، قريو لينا اولاد الشعب، الله يرحم الوالدين، و طفق يبكي و يشهق و يمسح دموعه بالكلينيكس، و في هذا الجو لم أتمالك نفسي و غالبني البكاء، فبدأت أولول و أندب، و فينك التعليم لي مشيتي و خليتينا، شكون غادي يربي معانا الولاد، آ ويلي مستقبلهم ضاع... طرق السيد المدير باب القسم، و دلف قائلا: يا كما داك النعاس أسي عبد الرحيم - شي شويا، ما جاوش عندي التلاميذ - عاد دابا خبرناهم باستعمال الزمن الجديد، مع العاشرة غادي يدخلو عندك - أول سؤال غادي نطرحو عليكم، أبنائي الأعزاء، ما هو الفيزياء؟