هو لا يريد أن يرى نشاز الأشياء والذوات بمثل ذلك الوضوح المعهود وبمثل تلك الضخامة المفرطة..تمنى أن تطالها شملة ضبابية كثيفة لتظل قابعة في غور الكائنات المجهرية ..بل توسل،في وقت من الأوقات من ربه أن ينمحي أثرها لتذروها رياح النبذ والنسيان،حتى وإن أدى ذلك إلى أن يغمر كيانه ظلام في ظلام .. قال في دخيلته : ما قيمة الإبصار إن كان لابد أن يرى أشياء تكبر في عينيه الذابلتين وهي أشد ضررا وتفاهة مما يُتصور: انسلاخ عن القيم النبيلة ..تدن صارخ عن المثل العليا..تخبط في متاهات المقت والمكر بالذوات..إنه يرى المحبة وقد استحالت الى كائن قزمي ،ويرى الفظاعة والبغضاء بشفافية أكبر..يرى كل ذلك فتثور ثائرته ثورانا لا يقاوم.. قال له طبيبه بعد أن أعيته الحيلة :" لا تجهد نفسك فيما لا طائل من ورائه يا رجل ..!! إن حقيقة الشيء ستظل كما هي،سواء أكبرت في أعيننا أم صغرت..بل حتى في أسماعنا وكل حواسنا..". لم يقتنع..ارتدى النظارة تلو النظارة.. جرب كل الموديلات.. جاب كل المشافي..تناوبت عليه أيدي الأطباء..لم يفلح.. في لحظة يأس مرير،أمسك بنظارته الطبية وقد استبدت به حيرة غير معهودة..تأملها لبرهة طويلة..أخذ يقلبها بين أنامله المتورمة..خاطبها بنبرة نابية حاقدة : " تفو..تبا لك من إطارات زجاجية ملعونة..!!"..قذف بها تحت قدميه ورفسها رفسا غير آبه..تناثرت أجزاؤها في كل الاتجاهات.. داهمت روحه ابتسامة غريبة..عمت بصره غشاوة..انتابه إحساس بدوار وانحسار..غمرت كيانه ظلمة حالكة ثم تلاشت المنظورات من أمامه إلى الأبد....