وداعا صاحب «دفنا الماضي»… فلن ندفن ماضيك أبدا * بقلم: خالد بنحمان لا يختلف اثنان في كون المجاهد الكبير عبد الكريم غلاب معلمة أدبية وسياسية ومنارة فكرية وشاهد عصره وصحفي أجيال متعاقبة وأزمنة حافلة بالمحطات والأحداث. لكن القليل فقط من يعلم أن الرجل هو واحد من ثلة قليلة خصها الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي بعناية ومرتبة خاصة بين أفراد أسرته منذ أن وطأت قدما الأمير الخطابي أرض مصر في النزول الشهير بميناء بورسعيد سنة 1947 قادما من جزيرة لارينيون متوجها إلى محطته الثانية من المنفى بكوت دولازور بمنطقة مارسيليا. عبد الكريم غلاب كما لم يعرفه عامة الناس ولم توفه بحوث الدارسين حقه وأفضاله، كان صاحب فضل كبير في تعليم أولاد الخطابي أولى أبجديات اللغة العربية بل كان عادة ما يقوم بدور الترجمة عند حلول ضيوف وزوار إلى بيت الزعيم بالقاهرة نظرا لافتقاد أبنائه اللغة العربية. فقد كانت للراحل عبد الكريم غلاب حظوة لدى قائد ملحمة أنوال تعكس مدى نبوغ وخلق هذا الكاتب والأديب الشاب آنذاك، حيث ظل يتذكر اللحظات الأخيرة من عمره كيف كان حريصا وملحا على حضور الحدث التاريخي عندما توجه ثلة من القادة والزعماء الوطنيين الكبار لزيارة الزعيم محمد بن عبد الكريم وهو عائد على متن السفينة من جزيرة لارينيون حيث أقنعوه بالنزول والإقامة بمصر ومواصلة رسالة الكفاح الوطني برؤية أوسع وبآليات العمل السياسي المنظم من داخل مكتب المغرب العربي، لحظتها كان عبد الكريم لا يزال في ريعان شبابه فلم تتح له تلك الفرصة ليكون ضمن وفد القادة الوطنيين إيمانا منهم أن متابعة وتدبير أمور مكتب المغرب العربي لا تقل قيمة عما كانوا بصدد القيام به، فقد كان الوطنيون يرون فيه حيوية متدفقة و نبعا جاريا له من الأدوار داخل إدارة مكتب المغرب العربي ما هو أهم في تلك المرحلة… لم تنته علاقة عبد الكريم غلاب بمحمد بن عبد الكريم الخطابي هنا، بلجعله نبل أخلاقه وتشبعه بقيم التحرر شخصا محبوبا داخل أسرة الزعيم، يتردد على بيته بقصر القبة ويجالس العائلة ويتبادل معهم أطراف الحديث كما أخذ على عاتقه مسؤولية تنوير أبناء الخطابي الذين خانتهم طول السنوات والمسافات عن الوطن و الأرض وترعرعوا على لسان لغة غير لغة الأب ومنطقة الريف ولغة كل المغاربة. ولم يزد ذلك أستاذنا الراحل عبد الكريم غلاب إلا تصميما وإصرارا ليكون أستاذا ومربيا لأبناء أسرة الخطابي، يلقنهم لغة القرآن وقواعدها ومعاجمها وأبجدياتها بحماس ورغبة قوية استمدها من شخصية بطل الريف. الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي لقد شكل أستاذ الأجيال المرحوم عبد الكريم غلاب فلتة أدبية وعلمية في شتى القضايا التي تشغل الأمة المغربية والعالم الإسلامي والحياة السياسية. ولعل من عاصروه و عرفوا أدواره في مقدمتهم المهتمون بتاريخ المقاومة الريفية ومن عايش الزعيم في مصر يؤكدون أنه كان واحدا من المقربين إلى أهل بيت الزعيم الخطابي حتى أن صاحب دفنا الماضي اتخذ من الخطابي قدوة وخزانا فكريا ونضاليا شحن همته وصقل شخصيته. عبد الكريم غلاب كان موسوعة في العلم بأصنافه المختلفة وظل يستشرف المستقبل بتحليلاته وإنتاجاته من خلال حدسه ونبوغه وقدرته على استطلاع راهن المغرب ومستقبله ومازاد شخصيته صلابة وقوة وتميزا في محيطه إبان تلك الفترةالتي أرخت لعلاقته الوطيدة ومعايشته لزعيم الريف ووقوفه على تفاصيل دقيقة ومهمة، كم نحن في حاجة إليها لفك طلاسم الألغاز واللبس الذي ترسخ في أذهان الكثيرين، فالزعيم الخطابي كان إبان لحظات في غاية الحساسية يبادل الراحل الاستاذ عبد الكريم غلاب أطراف الحديث والنقاش وتقييم الأوضاع بشمال إفريقيا وتبادل الأخبار قناعة من الزعيم أن هذا الشاب يكتسب من المؤهلاته والقدرات وتواضع الأخلاق ما عزز زخمه الفكري وميزه بين أقرانه من الشباب والطلبة المتواجدين بمصر. لقد رحل آخر العمالقة من الرواد الذين أسهموا في كتابة تاريخ المغرب طيلة قرن من الزمن.. وبرحيله يفقد الريف صديق ورفيق قائد ملحمة أنوال وأحد شهود مرحلة من حياة الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي تعلق به فقيدنا الأستاذ عبد الكريم غلاب وتقاسم معه لحظات هامة وتفاصيل أمور كما تقاسم معه الولع بالصحافة والكتابة والتجديد في كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والمجتمعية لتحقيق النهضة والتطور. فرحم الله فقيد الوطن وجعل مثواه الجنة مع الشهداء والصديقين والأخيار من كبار أعلام الوطن. وداعا صاحب «دفنا الماضي»… فلن ندفن ماضيك أبدا