يخبرنا القرآن الكريم في سورة المائدة بادعاء اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه، دون أن يقيموا على دعواهم دليلا. والدعاوى ما لم يقيمواعليها بينات أصحابها أدعياء وإذ يحكي لنا القرآن الكريم مقولتهم لايكتفي بالحكاية بل يكرعلى ما زعموه بالإبطال والتفنيد. فهذه المقولة المغرورة التي لم يقيموا عليها دليلا يثبتها، ينقضها أنهم بشرمخلوقون وعباد مملوكون. ولبيان ذلك يأتي تلقين الرد عليهم للنبي صلى الله عليه وسلم مباشرة بعد بسط قولهم، ومضمن هذا الرد أن من يحبه الله تعالى لايعذبه، وماداموا يعذبون بذنوبهم فهم ليسوا من أحباب الله كما ادعوا، لأن الحبيب لايعذب حبيبه. قال الله تعالى :(وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه، قل فلم يعذبكم بذنوبكم؟ بل أنتم بشرممن خلق، يغفرلمن يشاء ويعذب من يشاء، ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما، وإليه المصير)(سورة المائدة: 5/ 18). إن المؤمن إذا أصابته سراء شكروإذا أصابته ضراء صبر، وهوعلى الصراط المستقيم في كل الأحوال. والله تعالى غني عن تعذيب عباده الطائعين الشاكرين المؤمنين الأبرار:(ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم؟ وكان الله شاكرا عليما)(سورة النساء: 4/147). ولكن ما يبتلى به المؤمن من محن وبلايا إنما هولرفع درجاته وتكفيرسيئاته، وأما العذاب الإلهي فلا يكون لحبيب الله. قال الله عز وجل في الحديث القدسي:"من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشئ أحب إلي مما افترضته عليه، ولايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصربه، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شئ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأكره إساءته ولابد له منه". بعد تلقين ذلك الرد المفحم لصاحب الرسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليواجه به ادعاء اليهود والنصارى، يستعمل في هذا السياق القرآني حرف"بل" وهوهنا للإضراب، أي لدفع باطل دعواهم، مع إثبات الحقيقة المناقضة لتلك الدعوى:(بل أنتم بشرممن خلق، يغفرلمن يشاء ويعذب من يشاء، ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما، وإليه المصير). فالله تعالى بيده الملك وإليه المصير، لايعجزه شئ، ومن استحق العقاب والعذاب حاق به إن لم يعف الله عنه، ولم يجد مهربا ولا نصيرا. فانظركم اجتمع في هذه الآية الكريمة من أساليب البيان القرآني الرفيع، حيث استعمل أسلوب الحكي أوالسرد أولا لنقل مقولة اليهود والنصارى، ثم استعمل أسلوب التلقين المتضمن للأسلوب الاستفهامي الجامع بين الإنكاروالتنبيه، حيث أنكرالله عليهم به دعواهم، ونبههم في نفس الوقت إلى علة ذلك وإلى الحقيقة التي لعلهم غفلواعنها أوتغافلوا وهي أنهم بشرممن خلق. ثم جاء أسلوب الإضراب بحرف "بل" إمعانا في دحض مقولتهم مع توجيه الخطاب المباشرلهم في كلا جزئي الرد القرآني : الجزء الأول الاستفهامي، والجزء الثاني الإضرابي التقريري. ففي الأول استفهام ينبههم، وفي الثاني إضراب يفند دعواهم وتقريرلحقيقة بشريتهم. ويتواصل الأسلوب التقريري إذ يؤكد الحقيقة الشاملة وهي أن المشيئة الإلهية طليقة حكيمة، فالله سبحانه يغفرلمن يشاء ويعذب من يشاء. وهذا هوالحق لأن الله عزوجل بيده ملكوت كل شئ ولايخرج عن قدرته شئ، وهوفعال لما يريد. ولارتباط القصص القرآني بواقع الدعوة المحمدية وأدائه لوظائف تثبيتية وبيانية وتعليمية وتبشيرية بالنسبة للمؤمنين، ووظائف تصحيحية وتنبيهية وإنذارية بالنسبة للكافرين، وفي مقدمتهم أهل الكتاب، من يهود ونصارى، فإن السياق القرآني هنا ينتقل إلى مخاطبتهم بعد أن حكى حكى لنا قبل قليل دعواهم ودحضها ليدعوهم ويقيم عليهم الحجة بالرسالة الخاتمة حتى لايقولوا يوم القيامة لم يأتنا من الله رسول. قال الله تعالى:(ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشيرولانذير، فقد جاءكم بشير ونذير، والله على كل شئ قدير)(سورة المائدة: 5/19). فقد بدأت هذه الآية الكريمة بحرف النداء "الياء"(ياأهل الكتاب)، وفي النداء من التنبيه واستلفات العقول والنفوس للخطاب الموجه لها ما لايخفى. ومضمون هذا الخطاب أن الله جل وعلا بعث رسوله الكريم الخاتم صلى الله عليه وسلم بعد أن مرت قرون عديدة انقطع فيها الوحي من السماء، وكان آخرالأنبياء والمرسلين سيدنا عيسى عليه السلام الذي بين عهده والعهد المحمدي ستة قرون. فبعد هذه الفترة التي حصل فيها زيغ وانحراف كبيران في كل بقاع الأرض، حتى لم يبق من الموحدين والصالحين إلاالقليل جدا، بعث الله عز وجل نبيه الأكرم رحمة للعالمين ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فكان بدرا مضيئا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فتح الله به قلوبا غلفا وأعينا عميا وآذانا صما، فكان مولده وبعثته بشرى للعالم ورحمة، وكانت رسالته خاتمة للرسالات. ومن ثم فبعثته صلى الله عليه وسلم حجة على الثقلين من إنس وجن، فلا مبررلأحد ولاتعلة له في أن يدعي استمرارزمن الفترة، وأن الله تعالى لم يبعث رسولا بعد سيدنا عيسى عليه السلام. فهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، ورسالته عامة شاملة باقية صالحة إلى يوم الدين. أفلاينظراليهود والنصارى بعين الإنصاف والنزاهة والتجرد والعقل السليم في هذا الخطاب الإلهي قبل أن يأتي يوم لامرد له من الله.