قد أرتدي أجمل جلباب لدي، وأسدِل على شعري وشاحاً من الحرير، وأتعطر بالعود، وأذهب هكذا إلى حيث ترقد الآن... أو إلى منزلك الذي يغص بالناس اليوم... أصدقاء وأعداء، إخوان وأخوات الكفاح أو أشخاص حَمَلَهم قدرهم إليك لردهة أو لهنيهة من الزمن. قد أفعل كل هذا، لكنك تستحق أكثر. فأنت، أيها الرجل الصادق، تستحق أن لا أتزين أن لا أتجمل، أن لا أنافق ولو أن النفاق الاجتماعي في هذا المقام صار مباحاً. في جنازتك، تسْتَحِقُّ أن أتعرى من جلباب المجاملة وأكشف عن روحي من أجلك. لن أذهب للمقبرة ولن أذهب للعزاء، فعزاؤنا واحد في فقدانك. لن أبكيَ فيتيمة مثلما أصبحت عليه الآن لا تحتاج إلى توصية بالبكاء، بفقدانك فقدت آخر من كنت أشم فيهم رائحة أبي رحمه الله ، رائحة «الرجولة» الحقة، رائحة أوفياء هذا الوطن، رائحة الصدق والكفاح والانتماء إلى هذه التربة.. باختصار، فقد فيك الوطن ابناً باراً وفقدت فيك أباً بديلاً. ولا تحضرني الآن سوى أضغاث ذكريات. كيف كنتَ تأتي كل يوم إلى المكتب المجاور (الذي جلست فيه من بعدك لأشهر معدودة قبل أن أغادر جريدة «العلم» العزيزة نحو وجهات معلومة ومجهولة) ونقرأ جريدة «إيل باييس» سوياً وتحثني بهدوء على ترجمة مادة منها قبل أن «تحرقها» الصحيفة المنافِسة آنذك (الاتحاد الاشتراكي). كيف كنت أسْتَكْتبُكَ لصفحتي الأسبوعية، وأنت هرم من أهرام الصحافة، فلا تكتب فقط بل تلتزم بالوقت والحجم والموضوع، فيخجلني تواضعك! كيف كنت تقف - ببرودة دم تُحْسَد عليها - أمام غضب وعته البشر، أتذكر في هذا الباب حين تسلل شخص مجنون إلى مقر الجريدة وصار ينعتك بأقبح النعوت ويصرخ في وجهك شاهراً قبضته، ولم ترتبكْ بتاتاً، بل لم ترفع حتى صوتك للدفاع عن النفس. لكن ما ترسخ في ذهني وما بقي مرتبطاً بك على مر هذه السنين، وإن ابتعدت نوعاً ما عن مهنة المتاعب، هو ذلك اليوم الذي نشرت فيه في «العلم» عموداً بعنوان «عزيزي إرنيستو». كنت آنذاك أختزن فورة الشباب وتمرداً هادئاً بداخلي، (ومازلت!) فدونت على الورق زخماً نابعاً من القلب عن «تشي غيفارا»، كاشفةً عورتي الثورية، وأين؟... في جريدة «العلم» التي كان كل من يرى نفسه «تقدمياً» يسميها بأسماء تحيل على «المحافظة». المهم، أنني كنت في شك من ردة الفعل من حولي. عندما حضر «السي العربي» إلى الجريدة، جاء فوراً إلى مكتبي فقال: «أعطني ذلك الرأس الذي كتب «عزيزي إنيستو» لأقبله! لم أقرأ مادة مثل هذه منذ زمن». كان يضج بالحيوية والابتهاج الصادق. لا أنكر أن تصرفه ذاك ساهم في إنقاص مستوى «وجوديتي العبثية» إلى أدنى درجة، أنا من كنت أعتقد جازمة أن أفضل مصير تلقاه صفحتي هي أن يمسح بها الزجاج! أصابني «السي العربي» بعدوى جدوى الصحافة في هذا البلد لأنه كان يؤمن بمثل معكوس: «إقرأ زابورك ياداوود واذهب»، لايهم أن يستمع إليك أولا أحدهم، لايهم إن كان أحدهم سيتبعك. قل كلمتك بصدق وامض إلى حال سبيلك. هكذا عاش «السي العربي» وهكذا مات: قال كلمته ومضى، أدى واجب الصحافي على هذه الأرض وذهب. لم ينتظر من أحد أن يحمل قلمه بدلاً عنه ولم يطلب من أحد أن يتبعه. عزيزي «السي العربي»، أسكنك الله فسيح جناته وبَوَّأك مقام الصديقين.