ثاني جريمة من نوعها تحدث في الولاياتالمتحدةالأمريكية هذه السنة... جريمة لا يمكن حتى تخيل بشاعتها. يوم 16 غشت الجاري وجدت الشرطة الشاب ذا 19 سنة "أوستن هاروف"، الذي يبدو في الصور المعممة على وسائل الإعلام مثل الحمل الوديع، يفترس وجه ضحيته الثانية "جون ستيفن" في مسرح الجريمة بولاية فلوريدا الذي يضم كذلك جثة زوجته. ضبط رجال الشرطة "الشاب الوسيم" متلبسا، يقطع بأنيابه لحم ضحيته ويأكلها مُصْدِراً أصواتاً حيوانية، على حد تعبير الشرطة التي لم تجد في قاموسها، رغم غناه في وصف شتى أنواع الجرائم، ما تعبر به عن ذلك المنظر الذي تفوق على "هوليوود" في تصويرها لأبشع حالات الإنسان/الحيوان وأكثرها إثارة للرعب والاشمئزاز. حتى كلب الشرطة الذي هاجم الجاني حين لم يستطع رجال الأمن منعه من الاستمرار في افتراس ضحيته لم يتمكن من إيقافه. ربما أحس الكلب بغريزته الحيوانية أنه أمام حيوان أكثر منه شراسة! بعد الحادث، وبعد أن خف هول الصدمة قليلاً، حاولت الشرطة ومعها الصحافة الأمريكية استجلاء دافع الجريمة. لكن لا شيء يذكر، لأن ذلك الطالب آكل لحم البشر لا يعرف ضحيتيه بل جمع القدر بينهم في تلك اللحظة فقط، وهي لحظة يجب أن تسجل في أكثر الأركان ظلاماً من تاريخ النفس البشرية. هكذا، وجد متتبعو هذا الحدث أنفسهم أمام لغز وفرضيات تقوم على مقارنة حالة الهيجان التي كان عليها الشاب بحالة جريمة قتل وأكل البشر التي سبقتها. وملابسات الحادثين متشابهة نوعاً ما، إذ تتضمن في الحالتين معاً شابين عاديين ليس لديهما أي سجل إجرامي ولا دوافع منطقية ولا سابق معرفة بالضحايا. في الحالة الأولى تم إجراء اختبارات وتحاليل للكشف عن مخدرات في دم الجاني، وتبين أن دمه يحتوي على نسبة مهمة من مخدر "فلاكا". أما في الحالة الثانية فالتحاليل الأولية لم تدل لا على كحول ولا على أي مخدر تقليدي، لذا أمرت الشرطة بتحاليل إضافية لأن "فلاكا" ينتمي إلى الجيل الجديد من المخدرات التي يصعب ضبطها. لكنه يصنف من بين أخطر الأنواع لأنه في الشكل شبيه بأملاح الحمَّام ومتاح بسبب ثمنه المنخفض فهو مصنوع في الصين، إضافة إلى كونه قوي وسريع المفعول إلى درجة أنه يعرف باسم " الجنون بخمسة دولارات " أو " لحماق بألف ريال " ! موضوع المخدرات هو من بين أهم الأشياء التي نمارس فيها سياسة النعامة. والصحة النفسية والعقلية للمغاربة أمر لا يناقش إلا نادراً ويحيط بها الكثير من المسكوت عنه فيما يتعلق بالأفراد والأسر والكثير من التجاهل والترقيع فيما يخص السلطات العمومية. من جهة، تبين الدراسات العلمية أن الصحة العقلية والنفسية للمغاربة في خطر، وأن الإدمان على جميع أنواع "المؤثرات" على العقل في تزايد، وأنه أمر جدي ينبغي أن تعطى له الأولوية ضمن نظام صحي عقلاني ببلادنا. ومن جهة أخرى، على أرض الواقع نجد البنية الاحترازية والوقائية شبه غائبة، أما البنية العلاجية فحدث ولا حرج. كأن إغلاق وزارة الصحة لبويا عمر كافٍ لرفع القدرة الاستيعابية للمراكز المختصة في معالجة الأمراض النفسية والعقلية، ويقضي على جميع تلك الأمراض وكفى المؤمنين شر القتال! أما الإدمان، ففي ثقافتنا السائدة وحسب ما نستشفه من تعامل السلطات المختصة مع الموضوع، فليس مرضاً، وكذلك الاكتئاب. كل هذا "فشوش" وقلة الشغل! وإذا لم نقتنع بذلك، فتلك مشكلتنا، لأن النعامة أدرى! لا أعتقد أن دفن الرأس في الرمال بالسكوت عن الأمر وتجاهله هو أفضل ما يجب القيام به. ولا أدل على ذلك من معاناة المصابين وأسرهم، ولا أتصور أن أي عائلة مغربية تخلو من حالة مرض نفسي أو عقلي أو إدمان تدمي قلبها. فحتى مع توفر الإمكانيات المادية لدى بعض الأسر يصعب التعامل مع حالة تتطلب صبر أيوب. أما الأغلبية، أي الأسر التي تعوزها الإمكانيات، فالجحيم أرحم من التعامل مع مرض لا توجد بنية استشفائية مجانية لاستيعابه ولا بنية اجتماعية للتخفيف من آثاره، خصوصاً حين يتعلق الأمر بمرض مزمن. الواقع عندنا صادم، فبالتزامن مع عولمة سوق المخدرات، يتم استبدال مخدراتنا التقليدية (الكيف) ببذور قادمة من أفغانستان وباكستان مفعولها مدمر للعقل والتمييز ودخول مخدرات الجيل الجديد الرخيصة إلى السوق. في المقابل، يُحظَر النقاش في هذا الموضوع رغم فتح نقاش عمومي وترخيص استعمال مخدرنا التقليدي في دول عديدة. أما الأمراض والجرائم والجنح التي لها علاقة مباشرة بهذا الوضع ففي تزايد ولا تحتاج إلى أن نكون خبراء أو متخصصين لدق ناقوس الخطر. أجل...الواقع صادم، فماذا ننتظر لفتح نقاش عمومي في هذا الشأن ووضع سياسات عمومية واقعية وقابلة للتطبيق في هذا المجال؟ هل ننتظر أن تحل بنا الكارثة ويحصل عندنا ما حصل في فلوريدا؟