كنت كثير الإنشغال بنفسي ، حيث عزمت على التوغل داخل المغرب حتى يمكنني الإستفادة من خبرتي الطبية في خدمة الدولة هناك. كان أكثر الحديث أثناء ذلك الوقت ، في إسبانيا أو في الجزائر يدور حول إعادة تنظيم الجيش المغربي ، بمعنى، أعرب السلطان بعد معاهدة الهدنة مع إسبانيا، عن القيام بإجراءات إصلاحية. و لهذا قامت الصحف بنشر نداء ، الى كل أوروبي يمكن الإستفادة من علمه و كفاءته هناك ، بالتوجه إلى المغرب. لقد استأثر كل هذا باهتمامي ، فبدأت بوضع أفضل الخطط للمضي في غايتي . ونتيجة لتأقلمي عبر سنوات طويلة من الإقامة في الجزائر ، كنت أعتقد ، انه يجب علي أولا، حتى يمكنني التقدم بسرعة داخل المغرب ، الاحتكاك بسلوكات الأهالي والتعرف على عادات و أسلوب حياة هذا الشعب ، أكثر من محاولتي الإقتراب من السكان العرب في الجزائر. فيما يتعلق بي أنا ، فقد كان علي ، أن أكون هناك حيث يكون الجيش ، من ناحية كان لي من الحرية بما فيه الكفاية ، أن أسكن حيث أشاء ، لذلك أجرت للإقامة غرفة في أحد فنادق المدينة ، غير أنني أجرت من ناحية أخرى مع فرنسي إسمه عبد الله، « حانوتا «، دكانا، في الشارع المفضل . كنت أمارس فيه المهنة أو بالأحرى أقمت فيه عيادة، متعددة الإختصاصات . أدويتي تتكون مثل أدوية الأطباء المغاربة من موقد فحم كبير، بقضبان حديدية لأجل إحمائها حتى البياض، قدور كبيرة من البراهيم ، زيت الكافور، مسحوق القيئ مواد الإسهال و مساحيق مختلفة من دقيق ملون غير ضار لأمراض الوهم والإضطراب العصبي. و ما لم يسبق أن شوهد مطلقا و لا في أي مكان في المغرب ، هو تلك اللافتة الكبيرة ، التي كانت عندي معلقة ، حيث كتب عليها إسماعيل (يؤخم غاتل) بحروف كبيرة و جميلة : « مصطفى النمساوي طبيب وجراح « ، (المغاربة لا يعرفون المانيا الا باسم النمسا) . لا يكاد يصدق ، أي إهتمام أثاره وجود هذه اللافتة ، في بلد، حيث الإعلانات ، اليافطات ، اللافتات المعلقة ليست بعد ولو حتى في مرحلتها الطفولية، بل حيث أنها لم تولد بعد . من الصباح الباكر حتى المساء المتأخر، و الشباب ، الشيوخ ، المحترمون والفضوليون ، رجال و نساء يقفون أمام الدكان و يتهجون الحروف العربية الطويلة (القراءة لا يعرفها أحد في المغرب ، لكن التهجي يعرفه كل سكان المدن) ، التي ملأت القوسين الورقيين الكبيرين. فكان بذلك النجاح الباهر. لقد أشرت سابقا ، إلى أنني اشتركت وفرنسي اسمه عبد الله في الدكان ، لأنني لم أكن من البداية قادرا على أداء الإيجار وحدي. هذا الفرنسي ، ضابط خيالة سابق ، كان قد هرب منذ حوالي عشرين سنة ، بخزينة فيلقه إلى المغرب و قد وجد إيواء جيدا لدى السلطان السابق مولاي عبد الرحمان ، لكن ماله (كما ذكر لي هو نفسه ، عشرون ألف فرنك) قد بدده ، في سنوات قليلة ، في مجون و بذخ مع الفتيات العاهرات . لاحقا انظم إلى البلاط ، تزوج بطبيعة الحال و هو الآن يعيش من مهارته الميكانيكية . هكذا زعم ، أنه هو قائد فرقة النفخ في المغرب ، و أن عمله السابق كان يقوم على صنع آلات نفخ جديدة و إصلاح القديمة . كان من وقت لآخر يهتم بالذهاب إلى إحدى الموانئ ، حيث يجلب احتياجات جديدة. دون معرفة محددة ، كان يعتز رغم ذلك ، بأنه ضابط فرنسي سابق . إن كان إنسانا سليم النوايا ، فهذا ما لا يمكن دائما قوله على بقية المرتدين . بالمناسبة ، نظرا لطول إقامته في المغرب فقد تمغرب تماما ، وكان يترك بطريقة رياء حبات السبحة تنزلق بين أصابعه هو الآخر، مثلما يمكن أن يفعله أفضل «طالب» أو «فقيه». لكن دكاننا كان يبدو غيرعادي بما فيه الكفاية ، في جهة منه كان يعمل الفرنسي آلات النفخ ، و في الجهة الأخرى كنت أدجل أنا ، حيث هكذا يجب علي القول ، إذا كنت أريد أن أكون صادقا ، في تسمية عيادتي الطبية في المغرب. اللافتة المعلقة ثم مجيء طبيب أوروبي ، أثارا عموما أثناء ذلك كثيرا من اللغط ، وصداهما بلغا حتى مسامع الوزيرالأول سي الطيب بوعشرين . ذات مساء جاء بعض خدمه، أمسكوا يدي، و بالكاد كان لدي الوقت، أن أطلب فيه من الفرنسي عبد الله ، مصاحبتي كمترجم ، ثم إنطلقنا. ألفينا سي الطيب وقتها أثناء تناول العشاء مع عدد آخر من موظفي البلاط ، الذان كانوا ضيوفه. في الزاوية الخارجية للغرفة عزف ثلاثة موسيقيين على «الغيطة «، «الكويترا» و «الرباب «. سي الطيب دعانا سويا إلى الإقتراب من «الميدة « مائدة صغيرة واطية، لكن عبد الله شكره عن نفسه و نيابة عني ، و تراجعنا إلى الغرفة المجاورة ، بينما كان الوجهاء ينتقلون من صحن الى آخر. و بعد ذلك مباشرة حمل إلينا العبيد الصحون المأكول منها ، التي طبعا لا زالت تشتمل على أطعمة معدة بمهارة فعلا و وافرة ، لكن لمسها بالنسبة لي كان مقيتا ، لأن كل وجيه في المغرب ، مهما علت مكانتها، يعبث فيها بيدين بالكاد هما مغسولتان . لكن مراعاة للأدب كان علي تناول بعض اللقمات من كل صحن ، و لا أنسى أثناء ذلك ، مدح كرم سي الطيب وجودة الطعام . ثم قال لي عبد الله أيضا ، سيكون من عدم اللياقة جدا، لوأننا قبلنا دعوة سي طيب لتناول العشاء معه ، لكنه سوف يكون الآن جد مسرور بتواضعنا وأدبنا. الحجرة ، حيث كان يوجد سي الطيب بها ، تسمى «المنزه «، معناه ، غرفة في الطابق الأول ، طويلة ، ككل الغرف المغربية ، مؤثثة بأناقة ، أي ، بزربية « بني زناسن» ناعمة ممتدة عبر الغرفة ، وعلى الزخارف الجبسية المرتفعة للباب المقابل كانت هناك أيضا زرابي أخرى . ثم بعد ذلك وضعت فرش و وسائد صوفية. عدد من المصابيح النحاسية ، العتيقة التشكيل ، تتدلى من سقف الحجرة و كذلك في الزوايا بعض الشمعدانات الفضية تنير بشموع حمضية الدهن . كان سقف الغرفة يحمل رسومات ملونة ، وعلى الجدران نفس النقوش من الجبس على الطراز العربي . حين انتهينا نحن ايضا من الأكل ، دُعينا إلى الغرفة وأُذن لنا بالمشاركة في شرب الشاي ، الذي يدار فقط في فناجين صغيرة من الخزف الصيني الناعم . بعد ذلك كشف لي سي الطيب عن رجليه و سألني ، أي مرض ذلك. كان عبد الله الفرنسي ، قد سبق و أخبرني قبل هذا ، بأن الوزير يعاني من مرض نقرس إبهام القدم ، كان جهدي سيكون جد هين ، لو أنني كشفت له عن أعراض مرضه. مع ذلك قمت قبل ذلك بفحص رجليه بعناية، سألته عن بعض الأعراض الأخرى ، لأجل منح الأشياء منظورا أكبر، و أخيرا حين قلت له ، أن به «مرض الوزراء»، ( هكذا يسمى نقرش إبهام القدم في المغرب) ، كان جد فرح ، حيث ، أنني تعرفت حسب رأيه على مرضه من مجرد علامات ظاهرية . ثم سألني ، إن كنت من أنصار الوسائل الحارة أو الباردة (حسب رأي المغاربة فإن للأدوية صفات إما حارة أو باردة ) ، وحين عبرت له عن ميولي للأولى ، كنت قد صادفت بذلك ذوقه أيضا.