إيف ميشو هو أستاذ الفلسفة بجامعة "روان" الفرنسية، له ثلاثة كتب منشورة عن العنف في حضارتنا المعاصرة، وهو من المنادين بعدم تناول العنف بشكل تعميميّ كظاهرة عامّة، ويرى أن المطلوب هو تناول مسألة العنف بشكل مذرّر، بحيث أنّ تناولنا للعنف في المدرسة هو بالضرورة غير تناولنا للإرهاب العالميّ، مع الإلحاح على تناول المسألة من زوايا مختلفة.. وهو يؤكّد أنّ العنف يتمظهر في كلّ مكان، بقدر ما هو غير موجود في أيّ مكان.. عن العنف وتطوّره في المجتمعات المعاصرة وأساليب مقاربته، وضرورة استشراف توجهاته مستقبلا، كان معه هذا الحوار الذي أجرته كاترين هالبرن ونشرته مجلّة "العلوم الإنسانية" .. o وأنتم تقتفون آثار"نوربير إلياس" فإنّكم تلحّون بالخصوص علي مسار الحضارة والتدجين. إلاّ أنّ العنف يظهر من جديد في الفجوات... n ذلك لأنّي أعتقد أنّ الكائن البشريّ في جوهره - ونعود مرّة أخرى إلى الأنتروبولوجيا العامّة- ليس كائنا وديعا. ثمّ إنّ مسار الحضارة كلّه يقوم على تلطيف العنف (من خلال التهذيب أو استعمال المسكّنات) وعلى إعادة توجيهه (من خلال ممارسة الرياضة والألعاب في الميادين الرياضيّة) وعلى قهره ( بإيداع القاتل السجن) أو على استخدامه (في الحرب). ويتعيّن على المراقبة الاجتماعيّة أن تفرض نفسها على العنف. إلاّ أنّ هذه المهمّة لاحدود لها. ومع ذلك، فليس الخطأ ناجما عن التليفزيون إذا كان النّاس يحبّون مشاهدة العروض العنيفة ويزدرون التليفزيون الثقافيّ الذي يحتفلون به رغم ذلك. إنّ التليفزيون هو المتُّهم دوما. ومقابل هذا، فما أعتبره أمرا خطيرا هو أنّ جانبا مهمّا من إدماج الأطفال اجتماعيا يمرّ اليوم من خلال التليفزيون وألعاب الفيديو. وفي هذا المستوى يتمّ تكييفهم اجتماعيا مع العنف، وتبعات هذا ملموسة. وههنا ينبغي التوفّر على أشكال للتربية مختلفة. o في العديد من المراّت تكتبون: إنّنا اليوم "نرى العنف في كلّ مكان، وهو غير موجود في أيّ مكان" n بمجرّد أن نوجّه العنف ونعالجه ونعيد معالجته فإنّه يأخذ في الانتشار. فهو يغدو متعدّد الأشكال: فإذ يقلّ وجوده فإنّك تجده قد تسلّّل في كلّ مكان تقريبا. وهذا الرأي يخصّ العنف كما يشمل أيضا ضروب المراقبة الاجتماعيّة. إنّ مجتمعاتنا مركّبة، فنحن واقعون في شبكة إكراه وقوانين. وهي شبكات لا تحظى بالقبول، إلاّ أنّ مجتمعاتنا- ونظرا إلى الكمّ الهائل من التفاعلات وعمليات التحويل والامتزاج الثقافيّ- تدير إمكانات المواجهة إدارة جيّدة. o لم تتغيّر حقيقة العنف وحدها وإنّما كيفيّة التنظير له وفهمه.... n كانت النظريّة السياسيّة الكلاسيكيّة تقدّم صورة للإنسان الطيّب العقلانيّ المتطوّع. وكان العقد الاجتماعي يقصي العنف الذي كان ُيدرَك باعتباره مدمّرا أو جانحا، وكان يُتعاطى معه باستخدام القمع. وبداية من القرن التاسع عشر وقع إضفاء قيمة جديدة على العنف من خلال الظواهر الثوريّة وتمّ التركيز على الحقّ في الثورة. أمّا اليوم فإنّنا نفهم العنف على نحو نظاميّ، إذ نراه باعتباره أمرا واقعا داخل النظام إلاّ أنّه يُساسُ كما نسوس الجانحين والهائجين شيئا ماّ والأشرار والجيش والقمع. وهكذا يصبح العنف أوسع انتشارا ومسجّلا مقبولا ? ولكن على سبيل التلميح- في النظام. إنّه فهم شبه اقتصاديّ للعنف إذ أنّنا نجزّىء درجات الخطورة ونسمح ببعض الأشياء عندما نقدّر أنّ التكلفة الاجتماعيّة ليست باهظة. o على نحو استشرافيّ كيف تتصوّرون تطوّر العنف في مجتمعاتنا ؟ n الرأي عندي أنّه توجد عوامل أهمّ أخذت في التدخّل وأثرها سيكون كبيرا. وأنا أفكّر بالخصوص في المزاوجة بين الديموغرافيا والتطوّر، وبين النموّ وتدمير البيئة. ولن يكون العنف في علاقة بالأنتروبولوجيا البشريّة وإنّما بما للإنسان- باعتباره نوعا - من صلة بمحيطه. وإذا كان التقدّم المسجّل في الصّين والهند في اطّراد كما هو حاصل الآن، فإنّ الظروف المواتية لوجود عنف لا يُصدًّق ستجتمع: لن يوجد ما يكفي من الطاقة وسيكون التلوّث كبيرا. ولن يتمثّل الإشكال في أنّ الإنسان حيوان عنيف عدوانيّ وإنّما هو حيوان ولود كثير النسل، يستهلك قدرا أكبر من الطاقة ويدمّر ويلوّث. منذ عشرين سنة خلت كنّا نسأل إن كان باستطاعة الأرض أن تغذّي جميع البشر. أمّا اليوم فالأسئلة أصبحت بدلا من ذلك كما يلي: هل ستوفّر لهم ما يكفي من الطاقة؟ إلى أيّ حدّ ستكون الأرض ملوًّثة أو ذات طقس حارّ؟ أيّة حرب ستُخاض من أجل الماء؟ لقد كان تفكيرنا في شأن العنف إلى حدّ الآن ذا نزعة داخليّة، بمعنى أنّ العنف موجود داخل الإنسان وفيما بين البشر. وما ينبغي أن يأخذه هذا التفكير بعين الاعتبار هو بقاء النوع البشريّ فضلا عن الإكراهات الخارجيّة للعلاقة بالمحيط. إنّه تغيير جذريّ للمشكليّة.