لماذا مولاي العربي الشابي الشتوكي؟. ولماذا النبش في قصة حياته؟. وأية غاية لنا في ذلك؟. إن الجواب، هو أن سيرة الرجل تستحق أن تروى، عنوانا عن معنى مغربي، لجيل فتح عينيه على الإستعمار، وسكنته تلك الرغبة الجامحة في أن ينحث له مكانا تحت الشمس، مختلف عن تجربة من سبقه من أجيال مغربية. بصيغة أكثر دقة، إن في الكشف عن قصة حياة هذا الرجل البطل (وهو بطل فعلا في الحياة وفي المواقف الوطنية)، بعض من ملامح معنى التحول الهائل الذي عاشه المغاربة كإنسية، بعد صدمة الإستعمار. فهي تجربة حياة، من الغنى والكثافة والتميز والإثارة، ما يجعل حياة فرد (مثل حياة مولاي العربي) عنوانا على قصة المقاومة التي قاوم من أجلها أولئك المغاربة، الذي عاشوا ما بين 1912 و نهاية القرن 20. أي أننا من خلال تجربة حياة فرد، نلج إلى معنى ثقافي سلوكي لمجتمع جديد، صهرته قوة ذلك التحول وتلك المقاومة من أجل شكل حياة مختلف. مختلف، بدفتر تحملاته القيمية، التي تعلي من فكرة النهوض. النهوض الذي عنوانه الأكبر عندهم، هو استحقاق التقدم وشروط المدنية والحداثة. وهنا يكمن السر في معنى التحول التاريخي الذي يعيشه المغاربة، منذ أكثر من قرن من الزمان، لأنه انتقال هائل من معنى حياة إلى معنى حياة. وتجربة رجل إسمه مولاي العربي الشتوكي، الذي تقاطعت عنده مسارات تجارب متعددة: حياتية، نقابية، سياسية، مقاومة، تقدم لنا بعضا من المثال الخصب على ذلك. كان مرجل السياسة يغلي حاميا جدا بالمغرب في نهاية الخمسينات وبداية الستينات. كانت اصطفافات الإختلافات الطبيعية، اجتماعيا وسياسيا وثقافيا، قد بدأت تبرز بشكل أكبر، بعد أن أنجزت الحركة الوطنية والقصر، مهمتهما التاريخية بتحقيق الإستقلال. لأنه أصبح السؤال الكبير، حينها، كيف يجب تدبير ذلك الإستقلال وعبر أي مسار سياسي، هل عبر خيار إعادة بنينة الدولة، أم عبر خيار تعزيز السلطة الشعبية للجماهير؟. هنا كانت المصالح متناقضة طبيعيا، بين اتجاه محافظ، هادئ، تقليدي، واتجاه آخر حداثي، منطلق، متوثب. وكان اختيار مولاي العربي الشابي، هو أن يكون مصطفا في الإتجاه الثاني، الذي أصبحت ترمز إليه الحركة الإتحادية منذ الإنشقاق عن حزب الإستقلال سنة 1959. لكنه انخراط، لم يكن مجرد اصطفاف مبدئي من قبله، بل إنه كان من مهندسي تلك الحركة، ومن المطلعين على أسرارها التأسيسية. بدليل، أن جزء حاسما من الإجتماعات السرية، ما قبل الإعلان عن تأسيس حزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية بسينما "الكواكب" بالدارالبيضاء، قد كانت تتم بضيعته الفلاحية الجديدة بضواحي المدينة، قرب دار بوعزة. إذ، هناك اجتمع مرارا، عبد الرحيم بوعبيد، والمهدي بنبركة، وعبد الرحمان اليوسفي، وعبد الله إبراهيم، والمحجوب بن الصديق مع عبد الله الصنهاجي من الحركة الشعبية، وأيضا مع القادمين من حزب الشورى والإستقلال محمد بنسودة وعبد الهادي بوطالب. هذا يقدم الدليل على أن الرجل كان حاضرا في سر الفكرة وفي السر التنظيمي للحركة. بل إنه حتى في بيته الجديد بفيلا "فرانس فيل" قد أصبحت "مدام مولاي" وأبناؤها، يهيؤون أسباب الإستقبال العائلي الحميمي لكبار تلك الحركة، الذين كانوا من الزوار المداومين لبيت مولاي العربي، مثل الشهيد المهدي بنبركة، والمرحوم عبد الرحيم بوعبيد (بوعبيد الذي كانت قد زارته "مدام مولاي" سنة 1957، في مكتبه بالوزارة رفقة ابنتها زينة الشابي، بعد أن أصر المقاوم عبد لله الزناكي، على أخدهما إليه، لطلب مساعدته في حصولها على جواز سفر مغربي. كان عبد الرحيم فرحا بتلك الزيارة، بدليل جلوسه مع "مدام مولاي" وابنتها والوطني الزناكي في أريكة جلدية قبالة مكتبه بالوزارة، وكان منطلقا في حديثه، مكبرا تضحياتها، منوها بمواقف مولاي العربي. لكن حين أخبره الزناكي بهدف الزيارة، أفهمهاأنه صعب ذلك لأن منح الجنسية معقد بالمغرب. كان الجواب ذاك صدمة ل "مدام مولاي"، هي التي تعرف صدقية وصراحة عبد الرحيم بوعبيد). كانت معارك أول انتخابات غرف التجارة والصناعة وانتخابات بلدية بالمغرب المستقل سنة 1960، ثم معركة أول دستور سنة 1962، ثم أول انتخابات برلمانية تشريعية في يونيو 1963، واحدة من المجالات السياسية التي انخرط فيها مولاي العربي من موقعه التنظيمي ضمن الحركة الإتحادية، بمدينة عمالية مثل الدارالبيضاء. وشكل فوز رفاقه فيها بأغلبية مقاعد الغرفة التجارية، التي تحمل مسؤولية رئاستها رفيقه في المقاومة وفي محنة المحاكمة والسجن، محمد منصور. وفوزهم ببلدية الدارالبيضاء التي آلت رئاستها إلى المحامي الشاب حينها، المعطي بوعبيد. أقول شكلت تلك الإنتصارات الجماهيرية، انتخابيا، أول الجواب السياسي على قوة التنظيم الحزبي للحركة الإتحادية. وأن تلك القوة كانت مسنودة، بشبكة من العمال والحرفيين والتجار، الذين شكلوا مصدرا حاسما للدعم اللوجيستي ماليا وتنظيميا، وفي مقدمتهم، بل من مهندسي آلية تلك الشبكة الحاسمة، مولاي العربي الشابي. من هنا، مهم، تحليل معطى سوسيولوجي، أن الحركة الإتحادية في ميلادها قد وجدت سندا هائلا من أبناء سوس، بذات الشكل الذي كان قد انتبه إليه ودرسه دراسة مدققة وإحصائية المرحوم الحبيب الفرقاني، كان رحمه الله قد أطلعني عليها سنة 1996، ولم يكتب لها أن تنشر قيد حياته. كان مولاي العربي، قد انتقل عائليا إلى فيلا جديدة، كبيرة ب 95 شارع عبد المومن، بثمن اعتبر حينها خرافيا (16 مليون فرنكا) دون أن يدرك الكثيرون أن الرجل، لم يكن ممن يقترون على أبنائه وزوجته في استحقاق أسباب الحياة الكريمة، دون السقوط أبدا في منطق للتبذير والبدخ. مما يعتبر دليلا على طبيعة شخصيته، التي كانت ترى إلى الحياة، كمقاومة لاستحقاق الجمال في كل شئ. الجمال في الروح والجمال في السلوك والجمال في المواقف، وأيضا الجمال في اللباس وفي المسكن وفي العمل. أليس ذلك، عنوانا لمعنى أن جيله (جيل مغاربة الثلاثينات حتى نهاية السبعينات) قد كان جيلا حداثيا بالمعنى العميق للكلمة وليس فقط بمعناها السياسي الإيديولوجي. كانت تلك الفيلا الجديدة، مكان تلاق وزيارات متواترة لقادة الحركة الإتحادية، لشبكة التجار السوسيين، لرموز من الدولة. ستقول لي زينة الشابي، كبرى بناته في لحظة استعادة رائقة، وعيناها تشعان تقديرا واحتراما، أنها كانت دوما تسعد بزيارات الشهيد المهدي بنبركة، بيديه وأصابعه القصيرة، الأشبه بأصابع وأيدي طفل، وأنه كان مربيا كبيرا، يسأل عن كل تفاصيل الدراسة، ويتركك تستشعر أنك من عائلته. على ذات القدر الذي ظلت تحكي هي وشقيقها مولاي يوسف بتقدير عال جدا عن الدكتور عبد الكريم الخطيب، الرجل الذي لعب دورا حاسما في إنقاذ مولاي العربي من براثن عصابة الجنرال أوفقير بعد الحملة الشرسة ضد الحركة الإتحادية يوم 16 يوليوز 1963. كان مولاي العربي رفقة زوجته في مدينة إيفران لأغراض مهنية، حين طوقت عناصر مدنية من المخابرات بيته بشارع عبد المومن، مثلما طوقت عناصر أخرى فندقه الصغير بمدينة القنيطرة وقامت عناصر أخرى بتطويق ضيعته الفلاحية بضواحي الدارالبيضاء، وجاءت أخبار أن هناك فرقة أخرى من شرطة مراكش مرابضة قرب فندقه الجديد بها (لأن مولاي العربي، بحنكته المهنية في مجال التجارة، قد نوع من أنشطته التجارية في مجال الفندقة والنقل والفلاحة). كان جواب مولاي العربي لابنه مولاي لحسن الذي كان بالقنيطرة رفقة مولاي عبد القادر ومولاي يوسف، بينما زينة وفاطم عند خالاتهم بإسبانيا، بعد عودتهن من رحلة مدرسية صيفية بالعاصمة البريطانية لندن. كان جوابه، أنه لا يرى سببا لكل ذلك التطويق ومحاولات اعتقاله. عاد رفقة زوجته "مدام مولاي" في سيارته "المرسيديس 220 س." السوداء التي لم تكن تتوفر سوى عند وزراء الحكومة، إلى القنيطرة حيث ركب معه ابنه مولاي لحسن بعيدا عن الفندق، فيما توجهت "مدام مولاي" صوب باقي أبنائها بالفندق. كانت الوجهة، وابنه هو الذي يسوق السيارة هذه المرة، الرباط، من أجل استطلاع حقيقة ما يجري. وشاء القدر أن يجدا عند مدخل الرباط، حاجزا للشرطة، الذي حين لمحه ابنه مولاي لحسن قرر أن يعود بسرعة أدراجه بالسيارة، لكن مولاي العربي نهره من ذلك، قائلا: "إذا رجعت سيشكون فينا وسيلاحقوننا. لقد حلمت البارحة أن ظهري ملئ بالنحل، لكن ولا واحدة منها لسعتني. توكل على الله، سنمر". وصلت السيارة عند حاجز الشرطة، ودار حواليها الشرطي المراقب قبل أن يطلب من مولاي العربي أوراق السيارة، فكان أن فتح محفظته وبرزت أول ما برزت منها بطاقة انخراطه في مؤسسة الهلال الأحمر المغربي، الذي كان يدعمه سنويا، بخطيها الأحمر والأخضر، فاعتقد الشرطي أنه مسؤول كبير في الدولة، خاصة مع نوع السيارة الفخمة، فأمر زملاءه بفتح الطريق معتذرا لمولاي العربي قائلا: "نعتذر لم نعرف سيادتكم" فأجابه مولاي: "لا بأس يا بني، لا يمكن أن تعرفوا الجميع". وحين بلغت السيارة الساحة المقابلة لمحطة القطار الرباطالمدينة، وجد رفقة ابنه جمهرة كبيرة من الناس، لأن الملك الراحل الحسن الثاني كان سيودع ضيفه الرئيس السينغالي ليوبولد سانغور في طريقه عبر القطار صوب فاس. نزل مولاي العربي وترجل من سيارته واندس بين الناس حتى صار في مقدمة الصفوف، فلمح عددا من الوزراء من أصدقائه كان ضمنهم الدكتور الخطيب. ناداه مولاي العربي، فأمر الخطيب شرطي الأمن أن يسمح له بالمرور، فنهره الدكتور عبد الكريم قائلا: "ماذا تفعل هنا إن أوفقير يبحث عنك لاعتقالك" فنادى سائقه الخاص وقال له أن يأخد مولاي العربي إلى بيته بالرباط. هناك جاء فجأة الجنرال أوفقير لاعتقال مولاي العربي بعد أن بلغته معلومة أنه ببيت الخطيب. لكن الدكتور عبد الكريم رفض أن يسلمه له، بل إنه أخرج مسدسه الخاص وهدد أنه سيرتكب حماقة إذا أصر أوفقير على اعتقال ضيفه. فغادر الجنرال فيلا الخطيب حانقا. بعد يومين تمكن مولاي العربي من المغادرة والتوجه إلى مراكش، بعد أن اتصل الدكتور الخطيب بالملك الحسن الثاني ودافع عن مولاي العربي أنه لا يرى سببا لاعتقاله من قبل أوفقير (الحقيقة التاريخية المؤكدة من مصدر موثوق جدا، أن الدكتور الخطيب تدخل فعلا عند الملك الحسن الثاني، من أجل شخصين: الأول هو مولاي العربي، والثاني هو عبد الرحمن اليوسفي، الذي طلب منه أن لا يعذبوه بدار المقري). لكن، الذي سيقع هو أن جماعة أوفقير عذبت بوحشية اليوسفي بدار المقري، واعتقلت مولاي العربي بمراكش، حيث حمل إلى كوميسارية جامع الفنا الشهيرة حيث تعرض لتعذيب وحشي لأيام، قبل قرار نقله إلى الدارالبيضاء. فكان لابد من تدخل حاسم من الدكتور الخطيب لإطلاق سراحه وعدم إلحاقه برفاقه الإتحاديين، المعتقلين بدار المقري. كانت تلك التجربة، المريرة، وبداية تحول مسار المواجهة صوب العنف بين مؤسستي مشروع الإستقلال (الدولة والحركة الوطنية)، الذي كان من جرائمه الكبرى اختطاف وتصفية صديقه المهدي بنبركة يوم 29 أكتوبر 1965، سببا في أن يقرر مولاي العربي الإنسحاب من أي مسؤولية سياسية مباشرة، معتبرا أن الوفاء لذكرى النضال المشترك من أجل مغرب حر ومتقدم، لا يستقيم عنده أن تكون فاتورته دموية بكل ذلك العنف الذي جرت إليه ما أسماه الدكتور محمد عابد الجابري بعد ذلك بسنوات ب "القوة الثالثة"، كلا من القصر والحركة الوطنية. قائلا لزوجته : "لا، ليس من أجل هذا ركبنا الموت في الإستعمار". فقرر التفرغ لأعماله التجارية وعائلته، وأن يظل السند الحاسم لرفاقه في الحركة الإتحادية، في العديد من المحطات النضالية الحاسمة، دون أن يكون أبدا ظاهرا في الصورة. وبقيت علاقته قوية مع عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمن اليوسفي وعبد الله إبر اهيم (مع علاقة غير قوية مع المرحوم الفقيه البصري)، وأيضا علاقة قوية، مع صديقه الدكتور عبد الكريم الخطيب. قبل وفاته يوم 30 ماي 1998، ودفنه في جنازة مهيبة حضر في مقدمتها عبد الرحمن اليوسفي وعبد الله إبراهيم وكبار رجال الدولة ورجال الإقتصاد ورجال المال والأعمال المغاربة، وصف طويل من المواطنين والمناضلين من مختلف أطياف اليسار والحركة الإتحادية وعائلة المقاومة وجيش التحرير (هو الذي كان في مقدمة من تصالح مع حركتهم الملك الوطني الحسن الثاني سنة 1974، حين أسس المجلس الوطني لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير وكان في مقدمة أعضائه المختارين مولاي العربي الشابي). قبل رحيله، كان بطلنا، قد مر بتجربتين مريرتين جدا عائليا: أولها مقتل ابنه البكر من الذكور مولاي لحسن في حادثة سير بين الدارالبيضاء وأكادير سنة 1969، كان الجرح كبيرا عليه وعلى "مدام مولاي". ثم تجربة مرض زوجته ورفيقته ومعنى وجوده "جوزيفين / عائشة"، في بداية الثمانينات بسرطان في المعدة، لم يلبث أن اختطفها منه سنة 1985. كان مولاي العربي قد تلقى وساما ملكيا مثله مثل باقي قادة المقاومة وجيش التحرير، مثلما أنه في عهد حكومة التناوب بعد وفاته، سيطلق على ثانوية بشتوكة آيت باها (بلده وبلد أجداده)، إسم "ثانوية مولاي العربي الشتوكي الإعدادية"، والموقع على القرار، هو وزير التعليم حينها، الدكتور الحبيب المالكي.