الكتابُ الذي ننشر ترجمته الكاملة إلى العربية هو- كما أراد له صاحباه (حبيب المالكي ونرجس الرغاي)- ثمرةَ لقاء. لقاء ما بين رجل سياسة وبيْن إعلامية: الأوّل يريد أنْ يقدّم شهادة، والثانية تريد أنْ تفهم. ليس من عادة رجال السياسة أنْ يقدّموا شهاداتهم. قليلون جدا هُم الذين يَقبلون الانصراف إلى تمْرين تقديم الشهادة. ورَغم ذلك، فإنّ تاريخ المغرب المعاصر بإمكانه أن يشكّل تمرينا جيدا للشهادة. فمنذ مستهل التسعينيات، طوى المغرب صفحات مصالحة لم تكن دائما هادئة. إنها مادة رائعة أمام المُنقّبين الذين يرغبون في الذهاب أبعد من الطابع الآنيّ للمعلومةّّّ! كما أنّ هذا الكتاب هو كذلك ثمرة رغبة ملحّة في الفهم، فهم هذا الحُلم المقطوع التمثّل في التناوب التوافقي الذي دشّنه الوزير الأول السابق المنتمي إلى اليسار، عبد الرحمان اليوسفي. وهو أيضا رغبة في فهم ذلك الإحساس بالطَّعْم غير المكتمل للتناوب الديمقراطي. o ما هي العبَر التي يجب استخلاصها مما يجري اليوم في العالم العربي وفي المغرب العربي؟ n إنّ أحداث تونس ومصر تعنينا بصفة مباشرة، وتسائلنا بقوة. وعلينا أنْ نستخلص منها كل العبر والدروس. لكن يجب التذكير أن أوضاع المغرب وهذين البلدين لا يمكن مقارنتها لعدة اعتبارات، خصوصا أن المرتكزات مختلفة. فالمغرب يعيش حياة سياسية غير منتظمة، إلا أنها تبقى حياة حقيقية بمكتسبات وإيجابيات نحو الديمقراطية. إنّ إنكار ما يمكن أن نسميه «خصوصيات مغربية»، يعني في الحقيقة إقبار هذه التجربة التي نعيشها لما يزيد عن نصف قرن. o هل معنى هذا أن نستمر في تقديم المغرب كاستثناء في المنطقة؟ ألا يشكل هذا خطرا؟ n أعتقد أن استعمال مصطلح «استثناء» أصبح غير ذي معنى، إننا نعيش وضعا جديدا مطبوع بالعولمة والمطالبة بالديمقراطية وحقوق الإنسان. فالخصوصية أو الاستثناء لم يعدْ من الممكن استعمالهما كتعلّة لتبرير إبقاء الوضع على ما هو عليه. إنّ اللجوء باستمرار لمثل هذا المرجعيات يصيب بالعَمَى السياسي، وهذا أمْر في منتهى الخطورة. o بالمقارنة مع ما وقع في تونس، وما يقع حاليا بمصر، تطرح مسألة الانتقال بحدّة. كيف يمكن في رأيكَ تنظيم مثل هذه الانتقالات في تونس ومصر وحتى في المغرب، بما أننا نتحدّثُ كثيرا عن انتقال غير مكتمل في المغرب؟ n هناك انتقال وانتقال. ففي حالة تونس ومصر، يتعلق الأمر بانتقال من نوع خاص لأنه نتاج للانتفاضة الشعبية ضد المؤسسات القائمة وضد النظام السياسي القائم. وبعبارة أخرى، إنها نماذج للاحتجاج الشعبي الذي طبعته عقود من القمع السياسي في إطار الحزب الوحيد. هذا النوع من الانتقال سيكون مؤلما وطويلا في غياب زعامة. وليس هناك مشروع مكتمل. إنه درس ينبغي أنْ يفضي ليس إلى استعادة ديمقراطية ما، ولكن إلى بنائها. أعتقد أن هذا النوع من الانتقال غير مسبوق في تاريخ ثورات القرن العشرين. وفي حالة المغرب، يتعلق الأمر بانتقال داخل المؤسسات وفي إطار النظام السياسي القائم، والهدف هو تعميق الدمقرطة في أفق اقتسام حقيقي للسلط حتى يتضح أكثر دور الفاعلين السياسيين ووضعهم الاعتباري. o ألاَ يشكل تركيز السُّلط خطرا فعليا؟ n كلّ تركيز للسلط هو نقيض للديمقراطية، وبالتالي يصبح خطرا، لأنه يهدد دعائم الديمقراطية. ولهذا السبب طالب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية دوْما بإصلاحات سياسية ودستورية جدّ عميقة. ويجب التذكير هنا أنه في شهر ماي 2009 رفع الاتحاد الاشتراكي إلى العاهل المغربي مذكرة تتعلق بإصلاح دستوري يستجيب لمتطلبات الوضعية الراهنة. لقد قيّمنا تجربتنا، وبخاصة منذ مجيء العهد الجديد، وتوصلنا إلى حقيقة مفادها أن نَفَسا جديدا وآفاقا جديدة أصبحت ضرورية. ومن غير الممكن القيام بكل هذا إلا من خلال إخضاع دستور 1996 للظروف الجديدة، وللمتطلبات الجديدة لمغرب اليوم. وتتجلى المحاور الكبرى لهذا الإصلاح في نظرنا في دسترة عدد من المكتسبات في مجال حقوق المرأة، وحقوق الطفولة، وفي حقوق المعاقين، وكذلك في مجال البيئة. إن الأمر يتعلق هنا بانخراط المغرب في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، خاصة ما يتعلق منها بالحق والقانون. إنّ تطوّر مفهوم اقتسام السلط يشكل كذلك محورا أساسيا. وذلك بتمكينه من امتدادات حقيقية. وعلى سبيل المثال، ينبغي ألاّ يظل الوزير الأول مجرد منسق، بل يغدو رئيسا للوزراء يمارس صلاحياته بصفة فعلية. فبالإضافة إلى استعادة الوزارة الأولى كمؤسسة، نطالب بإقامة سلطة قضائية، أي سلطة مستقلة ضامنة لتوازن السلط الأخرى، وبين مجموع السلط. o في إطار الاصلاحات الدستورية والسياسية، هلْ سيصل الاتحاد الاشتراكي إلى حد المطالبة بإنشاء مَلكية برلمانية ؟ n تشكّل الملكية البرلمانية مطلبا سياسيا للاتحاد الاشتراكي منذ أمد بعيد. فخلال المؤتمر الوطني الثامن للحزب، المنعقد في نونبر 2008 تمكنا، من خلال نقاش عميق ومسؤول، أن نعتبر أن إقامة ملكية برلمانية يجب أن تشكل أفقا، أي مرحلة داخل مسلسل مطبوع بتغيير عميق في المؤسسات وفي الصّلاحيات. إن مطلبا من هذا النوع لا يُفرض بمرسوم، بل له ارتباط عميق بالتحوّلات الاجتماعية والسياسية، وكذلك بمكانة ودور الأحزاب السياسية في تعزيز ديمقراطية حقيقية. o أَلاَ يمرّ هذا التطور للنظام عبر إعادة الاعتبار، الضرورية والمستعجلة، لدور الأحزاب السياسية في بلد كبلدنا؟ n إذا كانت هناك من عبرة يمكن استخلاصها مما تعيشه تونس ومصر، فهي حقيقة الدور الحيوية، الدور المطمئن، بالمعنى الديمقراطي، للأحزاب السياسية. فمنذ سنوات، حاول البعض اللعب بالنار حين وضع على كرسيّ الاتهام الأحزاب الديمقراطية الوطنية، محاولا التبخيس من دورها والإساءة لذاكرتنا الجماعية، من خلال الحركة الوطنية. وتبين الأحداث الجارية أنّ الانتقال الديمقراطي الناجح لا يمكن أن يتم إلا مع الأحزاب السياسية المسؤولة وذات تمثيلية. o ألا يشكل الفراغ السياسي مرْتعا لكل أنواع التطرف ؟ هل يجب أن نخاف منه؟ n الخوف هو نقيض السياسة، أيْ أنه تحطيم لكل الحوافز التي تمكن من التطلع إلى المستقبل بكل ثقة، فالخوف يجعل المجتمع منطويا، حتى يصل وقت الانتفاضة والقطائع. إن ما يقع في تونس ومصر هو بكل تأكيد تحرر من الخوف ... يقال أن جدار الخوف قد تهاوى ... بعبارة أخرى، إذا كان جدار برلين قد انهار ماديّا، سنة 1989، أمكننا أن نعتبر 2011 سنة انهيار جدار الخوف في العديد من الدول العربية! يحلّ الفراغ حين نهجر الديمقراطية. وحين نهجر الديمقراطية نقيم الحزب الوحيد. ووضعية كهذه تقوي قناعتنا بضرورة ألا نجعل من المغرب استثناء، بل أن نجعل من التجربة الديمقراطية المغربية مرجعية لباقي الدول العربية. لهذا يجبُ تسريع وتيرة الإصلاحات في المجالات الدستورية والسياسية والاقتصادية والسوسيوثقافية. فتسريع وتيرة الإصلاحات وفتح ورش جديد للاصلاحات، من شأنه إعطاء نفََس للديمقراطية في المغرب، وتعزيز الانسجام الاجتماعي، وبروز فضاء تشارُكي جديد للشباب الذي أصبح قوة حقيقية للتغيير. هذه العناصر مجتمعة هي التي تمكّن المغرب من الاحتفاظ بقَصَب السبق مقارنة بباقي الدول العربية. o في الختام، هل هناك جدران أخرى في بلادنا يجب أن تسقط ؟ n كما تعلمينَ، تعترض التغيير دوما مقاومات عدة، إنْ على مستوى العقليات أو الممارسات. هناك مصالح تقاوم تسريع الدمقرطة. لكن الثقة في المؤسسات، والثقة في دور الأحزاب، والثقة في شبيبتنا تمكننا من بناء المستقبل بكلّ اطمئنان. o ماذا تقول لمن يقودون موجة الاحتجاج بالمغرب احتداءً بالنموذجيْن التونسي والمصري ؟ هل يقومون بتحليل خاطئ؟ n لا يشكل الخوف حاجزا جيدا، بل تبقى الديمقراطية هي أفضل الحواجز. o الأستاذ حبيب المالكي، لقد تحدثنا مطوّلا عن الوضعية السياسية الراهنة ببلادنا، المطبوعة بالمد والجزر. هل تعتقد أن إرث عبد الرحيم بوعبيد قد تم الحفاظ عليه، أو على العكس من ذلك، تم إتلافه، بالنظر لما يجري، وبالنظر للوضعية الداخلية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية؟ n الإرث لا يكون أبدا جامدا، ولا يجب الخلط بينه وبين عبادة البقرة المقدسة عند الهندوس، وإلا أصبح معيقا حقيقيا لمسلسل التغيير. أضف إلى ذلك أن عبد الرحيم بوعبيد كان دوما ضدّ التقديس، كما حارب دوما التنكر. كان يحب دائما أن يردد أن مغرب اليوم مختلف عن مغرب الأمس، ولكلّ مرحلة، كما يقول، متطلباتها الخاصة، ومعاركها الخاصة، ووسائلها الخاصة، وبالتالي رجالاتها المخصوصين. غير أن بوعبيد، بالمقابل، كان يفضح دائما وضعيات الخلط التي تفضي فعليا إلى التراجعات والتشكيكات، التي تفرز في أغلب الأحيان أزمة ثقة. لم يكن عبد الرحيم بوعبيد أبدا مدافعا عن أنصاف الحلول التي تجعل السياسة غامضة، وبدون آفاق تعبوية. بإمكاني تلخيص إرث عبد الرحيم بوعبيد، الذي يجب أن نستلهمه اليوم أكثر من أي وقت مضى، بالتذكير بركيزتيْن أساسيتين طبعتا طريقة تصرفه: الصرامة والوضوح. o هل يمكن أن تقولَ أن اتحاديي اليوم هم دائما رجال ونساء اليسار، ويحملون أفكارا اشتراكية؟ n لا نزالُ ويجبُ أن نبقى رجال ونساء يسار، وإلا لنْ يحقّق الحزبُ طموحَه. وفي نفس الوقت سوف تختل الوضعية السياسية بالمغرب رأسا على عقب. ومع ذلك، فالانتماء إلى اليسار لا يكون على شاكلة ما كان عليه يسار العقود الأخيرة من القرن الماضي. فالانتماء إلى اليسار اليوم يعني أن تكون ديمقراطيا أولا، والانتماء إلى اليسار اليوم أن تكون لك قناعات تجعل الشعب يلعب دورا أساسيا في كل مسلسلات اتخاذ القرارات. يجب الأخذ بعين الاعتبار السيادة الشعبية التي هي مصدر الشرعية. o نحن اليوم في 17 فبراير 2011. وهكذا نصل إلى نهاية هذه المحادثات التي استغرقت عدة شهور. بماذا تودّ أن نحتفظ منها ؟ n السياسة هي الأمل، وكل نظرة تشاؤمية، تؤدي إلى نوع من البؤس يبخّسُ أهمية الفعل السياسي في مجتمعنا تبقى خطيرة. بلْ إنها أخطر من كلّ أشكال التطرّف...