في تجربة كتابية خاصة، أصدر الأستاذ عبد القادر الشبوكي، كتابا سير ذاتيا، تحت عنوان «الإحساس بالوقت»، هو عبارة عن بوح أمام الحياة، أكثر منه محاولة لرسم مسار قصة حياة عاشها واستهلكها واستهلكته حتى الآن. يكاد المرء يقول، بعد قراءته الأولى للكتاب، كما لو أن الرجل يصفي حسابه معها، من حيث أنها لم تكن دوما عليه رحيمة، فتعلم أن ينظر للناس والعلائق بمسافة واجبة للشك الإيجابي. ولربما أكثر من ذلك، منحته طاقة للتأمل الهادئ، الذي يجعله لا يصدق دوما الصورة الخارجية للوقائع والأوجه، بل إنه يسبر دوما الأغوار الدفينة للأشياء والعلائق، حتى يتيقن أنها لن تخدعه ثانية. في لغة، هذا الكتاب الجميل ببساطته، العميق بتجربته الإنسانية، الصادق ببوحه، نجد تمة بنية للجملة لا تكون لغير الإعتراف بالجميل للزمن. ذلك «العزري» الذي لا يشيخ، والذي يعلمنا أننا مجرد حفاة عابرين في أديم ترابه. دون إغفال ذلك الإصرار الجميل، معرفيا، منه في الربط بين قصة الذات وقصة المكان، حين يصر على وضع عنوان فرعي لكتابه: «شذرات من سيرة إبن مدينة بجعد». فالرجل هنا، لا يتغيا شوفينية الإنتماء للأمكنة، بل إنه يريد أن ينقل إلينا معنى العلاقة الجدلية بين الكائن والمكان. أي كيف يصنع كل واحد منهما الآخر، يشحذه، يبلوره، ويمنحه معنى وجود. وهذه تجربة في الكتابة غنية دائما ومخصبة. حتى، والمرء لا يستطيع، إنكار، أن علاقة المرء بالأرض، في ثقافة الشاوية عموما، هي علاقة عاشقة. أي أن المكان ليس هو الطلل، بل هو أثر ممارسة الحياة، والحرص على استمرارها، رسالة إلى الأجيال الجديدة، أن المرء لا قيمة له بدون عنوان. عنوانا في السلوك وفي الثقافة وفي الهوية. لقد أغرتني جديا، تقنية الكتابة، هنا، بخلفية سوسيولوجية. لأنه مع توالي تجربة الحياة، حياة رجل فرد، وتفاصيلها، وشجرة أنسابها في الدم وفي الأمكنة، تتبدى لنا ملامح عناصر للبحث الأكاديمي تصلح مادة غنية لعلم الإجتماع. وهي هنا واحدة من أسباب أهمية كتابة مماثلة، عنوانا عن كيف تطور المغرب والمغاربة، كمعنى سلوكي، خلال قرن من الزمان. مثلما أن القاموس اللغوي المستعمل، فيه عناوين أخرى سوسيولوجية، عن معنى ما تصنعه تربة البلاد هنا، قرب ضريح سيدي بوعبيد الشرقي، من معنى لتمثل الذات والعالم والعلائق، مختلف عن قاموس تعبيري آخر ل «تامغربيت» في هذه الجغرافية المغربية أو تلك. ولعل السر كامن، في قدر الكاتب، الأستاذ عبد القادر الشبوكي، أنه حين فقد ثدي أمه، باكرا جدا، وهو رضيع، ليتشرب طعم اليتم بعيدا عن رائحة الأم التي لا رائحة أخرى تعوضها، وجد نفسه قدريا ابنا لأكثر من ثدي وأكثر من أم، حين كانت النسوة يتعاونن لإرضاعه، فصار للطفل والرجل الذي صاره، أكثر من أخ وأخت في أبي الجعد. هنا يكمن سر العلاقة الوجدانية للإنتماء التي صنعت الرجل. وهنا عمق كتابته، التي قد يراها الكثيرون عادية، ذاتية، بينما الحقيقة، أنها جد ذكية وغنية. لقد انتبه الصديق الشاعر حسن نجمي، إلى ذلك، حين كتب مقدمة للكتاب، مما قال فيها: «لا يدعي سي عبد القادر الشبوكي ما به، يزعم ريادة أو قيادة، وإنما يكتب كتابا كي يضع مساره الشخصي رهن إشارة أبنائه وأحفاده وأصدقائه بالأساس. ولكنه يكتبه لنفسه أولا. فقد كان الشبوكي دائما في حاجة إلى أن يستلقي على أريكة محلل نفسي (Le Divan)، وكان في حاجة إلى من يسعفه على رؤية كيانه الداخلي. وحين لم يعثر على ذلك، وفرت له الكتابة آلية الإعتراف المثلى. وهكذا رأى أن يحكي حياته لأهله ومحبيه، وفي العمق، جلس أخيرا على أريكة الكتابة كي يسمع لنفسه صوته الشخصي الباطني المحجوب، الذي لم يكن يسمعه أحد آخر غيره. إنه يقول لنا بكل بساطة، بأن الحياة، لم تكن دائما سهلة معه، ومع ذلك، أحبها وتعلق بها وظل شغوفا بآمالها.. وحتى بأكاذيبها الكبيرة والصغيرة أحيانا.».