لقد صارت موضوعة الجسد تستقطب اليوم اهتماما بالغا في الفكر الفلسفي والعلمي، ليس لأنها كانت موضوعة خارج التقليد الفلسفي والديني، وإنما بالنظر إليها من زوايا علمية متعددة، كالسوسيولوجيا، والأنثربولوجيا، والتحليل النفسي، والسيميولوجيا والأدب... ونحن هنا، لا نود الانخراط في تاريخ الجسد، ولكننا نرغب في الإشارة إلى أهم القضايا التي أثيرت حوله. ونعني ثلاث محطات رئيسة وهي: الفكر الفلسفي، والفكر الديني، وأخيرا الفكر العلمي. والوقوف عند هذه المحطات يشكل بالنسبة لنا خريطة طريق لملامسة واختراق الإشكالية البحثية التي اقترحنا النظر إليها. وهي محطات تشكل استئناسا أوليا لموضوعنا. I. الجسد بين السياسي والديني: 1 – مقاومة الحشمة لقد استقطب الاهتمام الفكري، والديني، والفلسفي، والعلمي... الجسد الإنساني، ويظهر هذا الاهتمام جليا من خلال إغراءات الجسد، في تكوينه البيولوجي والفيزيولوجي، والثقافي، والرمزي، إنه الشاشة الكبرى التي تضعنا في تماس حقيقي معه، إن جسدي الذي أنظر إليه بشكل أو بآخر يروم الإرتباط بآخره، هذا الآخر الذي يشكل مرآة جسدي. لكن الجسد يظل في ثقافتنا العربية الإسلامية منسيا ولا مرئيا، حتى وإن كنا نراه ونبحث فيه، ثمة حجب متعددة بيننا وبينه. إن الغرب قد أسهم بشكل كبير في تمزيق هذا الحجب عبر الثورات الفكرية والاجتماعية التي أحدثها، الشيء الذي تم بمقتضاه وضع تاريخ له، و هو لا يتعلق بتعاقب هذه الموضوعة على مستوى الزمن، واختلاف زوايا النظر إليها بل تعداه إلى الحفر الجنيالوجي والأركيولوجي... إن اهتمام الغرب بالجسد شكل خلخلة للمواضعات التي ترسخت في الوعي واللاوعي. بهذا الشكل يمكن اعتباره العتبة الأولى في أي ثورة ممكنة. إلا أننا إذا قلبنا البوصلة نحو الثقافة العربية الإسلامية، فإننا سنتحصل على هامشيته وإهماله، وركونه في المنسي والمخبوء. ونحن هنا نلج إليه للملمة هذا المنسي وإعلانه. صحيح أن ثمة أبحاثا وضعته موضوعا للدراسة، ومع ذلك ظل محتشما ومحجوبا عن النظر، وكأننا لم نقطع مع قضايانا وأسئلتنا الكبرى في ثقافتنا العربية الإسلامية، وذلك لارتباطه بالمقدس الديني. هذا الأخير الذي رسم حدوده في كل شيء وضبط وظائفه حتى لا تنساق وراء المدنس الذي يسكنه الشيطان. بهذا المعنى وجب على المفكرين العرب اختراقه وهذا الخرق لا يتم إلا بالحفر في تاريخه أي مقاومة الحشمة التي تكسر نظرنا إليه. إن الجسد هو نتاج ثقافي، واجتماعي... أي أنه ليس مظهرا من المظاهر التاريخية الفردية، والتي تقدمه في طبيعته، أو عمقه، أو واقعيته، فهو بالأحرى موقع يتقاطع فيه الثقافي، والفردي، والرمزي، والمادي. لم يعد الجسد ينظر إليه في واقعيته وماديته، بل في ماورائهما من الأبعاد الرمزية التي تكونه، وتصهره مع الآخرين. إن الأبحاث الأنتروبولوجية ساهمت بشكل لافت في تفكيك هذه الرمزيات الثقافية، فإذا كان الأمر ينحو نحو ذلك فقد شكل موضوعا للدراسة عبر مقاربات أخرى. لقد نظر ميشيل فوكو الى هذا الجانب المنسي في الثقافة الغربية بعمق شديد، وهو بذلك أزال اللثام عن الجسد في الأماكن المهملة كالجنس والسجن والجنون... إنه أكثر من ذلك قام بتأزيم الثقافة العقلانية الذي وضع فيها الجسد هنا أو هناك. هكذا تمت الحفريات في هذا الجسد من أجل كتابة تاريخ جديد له. تاريخ يعطي للكتابات المهملة مركزيتها... إذن لماذا لم يكتب العرب تاريخ الجسد؟ هل لأنه يدخل في المجال المحرم؟ أم أن المسألة تفيد الارتباك الحاصل دوما دون الحديث عنه؟ إن هذه الأسئلة تفتح لنا طريقا آخر وشرفة أخرى، لذلك نستطيع النظر إليه دون السقوط في ذلك الارتباك. صحيح أننا لم نكتب تاريخنا الجسدي والجنسي، ربما للخلط الحاصل بين الحديث عنه والمقدس الديني، ولذا فسيظل الجسد لا مفكرا فيه، أو هو المكبوت عينه. وكتابة تاريخ الجسد ترمي إلى بيان المكبوت واللامفكر فيه، لكن ‹‹جل الدراسات التي تقارب هذا الموضوع أو تباشره لا تجلو صورة الجسد، بقدر ما تجلو عاطفة جياشة أو معايير جمالية ساكنة›› . يتبين لنا من هذا الموقف النسائي الارتباك الحاصل بيننا وبين الموضوع، وكأنه انفلت من موضوعة رئيسة في تاريخنا الفكري والسياسي إلى الحاشية والهامش. ففي كلاسيكياتنا نجد أهم من تحدث عنه هم الفقهاء أو الشعراء أو سراد الروايات، لكننا في عصرنا الحالي نجد الاهتمام به قد تولد من أسئلة الغرب، أي من الإنتاجات الفكرية الغربية، ومع ذلك – و رغم قلة هؤلاء – فقد خرقوا هذا الحجب المتعدد. إن هذا الموقف يضفي كذلك على الفيض الأدبي والجمالي نوعا من الاهتمام بالجسد. لقد أ ضحى الجسد – حسب فوكو – من إنتاج الخطاب، وهذا يعني أنه لا يوجد جسد سابق على الخطاب. إن الجسد حامل للدلالة، وهو بهذا المعنى مكون من مفاهيم رئيسة تحدده، ما دام الخطاب هو الذي أنتجه. من هذا التحديد يمكننا تفكيك الإواليات التي تحدده في الثقافة العربية الإسلامية، ولأجل ذلك سنحاول ملامسة ثلاثة مداخل للجسد - في هذا الفصل أولها الجسد محجوبا وثانيها الجسد الأخروي، وأخيرا الجسد المعذب. واختيارنا لهذه المداخل يفيد الارتباك الموجود بين الجسد والمقدس الديني، ليس فقط فيما أسسه الدين الإسلامي لذلك، وإنما في امتداداته في راهننا العربي الإسلامي، لكن قبل التفصيل في ذلك، وجب علينا النظر في الكيفية الذي تم بها تدبير الجسد سياسيا أو بالأحرى كيف أنتج الخطاب الإسلامي الجسد؟.