قليلة هي عناوين الأعمال الأدبية التي تذهلك و تستفزك ثم تتصيدك ، وقليلة أيضا تلك العتبات التي تثير في ذهن القارئ الحدس والفضول ، كما تثير في ذهنه تساؤلات عدة ، لا يستطيع الإجابة عنها ما لم يقتحم أغوار النص وتفاصيله . وتجدر الإشارة إلى أن هناك انفلاتات نقدية سريعة وقديمة ، وفي النقد الحديث على الخصوص، الذي أولى اهتماما متفردا للعنوان ، فأبرز أشراكه الجمالية والرمزية والشعرية ، الأمر الذي نجم عنه ظهور علم جديد له قواعده وأصوله ، اسمه " علم العنونة ". ابن سيدة الأندلسي يراه "سمة الكتاب" ، أي علامته وباب الدخول إليه ، ويشرق كما لو أنه ثريا معلقة في سقف النص يقول "دريدا " ، و يعده محمد مفتاح بمثابة الرأس للجسد ، ويمدنا بزاد ثمين لتفكيك شفرات النص ، وصفوة الكلام ، " علامة الدار على باب الدار " يقول المثل المغربي . في نفس السياق ، نادرة هي تلك العناوين التي تبقى موشومة في ذاكرة التلقي كصوت حواري ، وكإغواء ، وكمرايا متعددة من شأنها تصيد القارئ والزج به في عوالم النص ، وتحضرنا بعض هذه العناوين ، ولتكن مغربية ، وعلى سبيل المثال ، نذكر في الشعر " أعطاني خوخة ومات" لأحمد صبري ، و" أبدا لن أساعد الزلزال " للمرحوم بركات ، في القصة القصيرة ، " الغابر الظاهر " لأحمد بوزفور " ، " والريباخا" لأنيس الرافعي ، وفي الرواية " اللوز المر " للهرادي " و " قط أبيض جميل يتبعني " ليوسف فاضل ، "ابن الرومي في مدن الصفيح " لبرشيد و" رجل له عينان فقط" للمسكيني في المسرح ، و"الزفت " للصديقي و" حلاق درب الفقراء " للمخرج الركاب . مناسبة هذا الحديث في محبة العتبات ، العنوان الذي اختاره القاص سعيد منتسب لكتابه الجديد " ضد الجميع " الصادر أخيرا ضمن منشورات سليكي إخوان بدعم من وزارة الثقافة المغربية ، وأنا أقرأ الخبر : "ضد الجميع" كتاب يضم مجموعة متنوعة من التأملات حول الشعر والأدب والفلسفة؛ وهو سفر نحو كتابة أخرى تتميز بالعمق والتجاوز وإخلاف التوقع، وتستند إلى فهم خاص وحيوي لمعنى "الكتاب" و"الكتابة" و"الشعر" و"الإبداع".. كما أنه بحث في علاقة الكاتب بذاته وموقفه من محيطه والحساسيات الأخرى التي يجب دائما أن يقف على مسافة منها.» و.. لاشيء سحرني وقلب الصور من هذا الخبر وهذه التأملات وهذا الكوكتيل من الكتابة ، بقدر ما سحرني هذا العنوان الذي لم يأت اعتباطا وتم إنزاله من السماء هكذا ، لمن يعرف سعيد منتسب ، ويقرأه بعين فاحصة وعاشقة ، فهو قارئ نهم ، وكاتب ماهر ، ويحترم الكتابة حد أنها صلاة ، فهي لديه كما الشعر لدى ابن رشيق « باب متسع جدا ، وفيه أشياء غامضة ، إلا عن البصير الحاذق بالصناعة « . أقول مشاغب جميل في جلساته ، ولا عب ماهر في كتاباته بدءا من عناوينه ، وعادي جدا ، أن تستفزني ،وتزعجتني ، وتقلقني ، هذه الثريا المعلقة في السقف « ضد الجميع « ، ثم تمتعني لأن العنوان ليس غير نص صغير وجسر للعبور إلى النص الكبير ، ولن يكون سوى هذا الكل المرفوض . « ضد الجميع» ليس عنوانا عدميا ولن يكون ، بل لن يعدو أن يكون مكرا جميلا ولعبا من سعيد وبمهارة « أزوالد ديكرو « ، وحمالا لمعنى النصوص حتى ، فهو يتكون من علامتين ، «ضد» التي تحيل على الرفض والاحتجاج ، أما العلامة الثانية « الجميع « فتحيل إلى المجموع والكل دون استثناء ، هكذا عنوان باختيار المهرة ، من شأنه أن يثير الفضول والشهية كي تتناسل الأسئلة . وختاما ، ماذا لو كان هذا العنوان الذي يرفع شارة الرفض ضد الكل ، حكاية اسمها جنون الكتابة التي اسمها «الجنون المعقلن « ..وفي انتظار الدخول إلى أغوار « ضدا الجميع « ..مبروك لسعيد هذا الجديد وبالدفوف والمزامير .