متعبة، نعم، لكنها ممتعة رواية «المغاربة» للكاتب المغربي المبدع عبد الكريم جويطي. فهي لا تمنحك نفسها بسهولة في أول الصفحات، لكن مع توالي القراءة (قرأتها مرتين)، تكتشف أن المغاربة ربحوا روائيا جديدا، بصوت إبداعي مختلف. خاصة وأن التقنيات الكتابية التي صدر عنها الكاتب، جديدة تماما ضمن ريبرتوار الإبداعية الروائية المغربية والعربية. فهي تقنية تتأسس على بناء للجملة جد مكثف، وأنها دقيقة لغويا، بالشكل الذي يستوجب من القارئ، إعادة قراءة الجملة الواحدة أكثر من مرة، كونها تحتمل قراءات متعددة. وفي هذا احترافية عالية للكاتب. عمليا، النص الذي لا يهبك ذاته بسهولة، هو أجمل النصوص دوما، لأنه يستفز كسلك في القراءة، ذاك الذي عودتك عليه الكثير من الروايات ذات البنية التقليدية في الوصف وفي بناء معنى الحكايات.ورواية «المغاربة» نجحت في هذا الباب بمسافات، لأنها تجعل ذبذبات الانتباه تقف متوثبة لتتبع المعنى. أقصد، أعمق من ذلك، أنها تدفعك دفعا إلى إعادة بناء ذلك المعنى، الذي عليك أن لا تنتظر من الكاتب أن يتصدق عليك به. هنا يكون القارئ فعليا شريكا في صياغة المعاني، وليس مجرد مستهلك لها. خاصة حين يكون الموضوع، يستوجب ذلك، كون النص يحكي قصة «المغاربة» كمعنى إنسي في التاريخ، في السلوك، في بناء معنى الحياة، في ترصيص رؤية للذات وللعالم وللعلائق المتشعبة والمعقدة بينهما. بهذا المعنى، فإن رواية «المغاربة» مستفزة بدرجات عالية من الإيجابية. لأنها، عبر الأدب، تقتفي أثر المغربي كمعنى سلوكي، لأول مرة في تاريخ الأدب المغربي، بتلك القوة وتلك الجرأة وذلك البهاء. وهي نص يعرينا أمام ذواتنا، بذات الشكل، الذي قد تقوم به أطروحات أكاديمية متراكبة ومتعددة. ها هنا، تكمن قوة النص، في أنه عبر الأدب، يعيد رؤيتنا لذاتنا كمغاربة، في واحدة من أشد لحظات التحول التي نجتازها كإنسية في الحضارة. وفي ما أتصور، فإنه على قدر ما كان اليأس قد اكتسب مساحات في فضاءنا الفكري والمعرفي والثقافي المغربي، بسبب غياب السؤال المستفز، في لحظة التحول الهائلة التي نجتازها هذه، حتى خرجت علينا رواية «المغاربة» عنوانا على أن هذه التربة تعرف دوما (بمكر وذكاء ودهاء) كيف تجترح المستحيل دوما، في بلورة أشكال تحول معرفية، على مستوى طرح سؤال الحقيقة على الذات. من هنا، أراها، رواية أمل. بل، إن عمى البطل، يكاد يكون كناية عن إلحاحية «البصيرة» وليس مجرد البصر، لفهم الذات. تلك التي تستوجب الصدق والصراحة مع الذات، في الرؤية لواقعها، في انتقاده، في تمثله في كافة تفاصيله، القبيح منها والبهي. ولمن يعتقد، بعد إنهاء الرواية، أن النص والكاتب كانا قاسيين على الذات، وعلى «المغاربة»، فإن الحقيقة، هي أنهما كانا فقط عاشقين، وأنه على «قدر الهوى يأتي العتاب». وأنه نكاد ننسى، دوما، أن تصعيد الموقف (الساخر/ الناقد/ الكاريكاتوري)، إنما هو تقنية في النقد تكون أبلغ حين تنجح في أن تجعل الذات تشلح عنها غلالة الوهم أو مرض النرجسية، وتجعلها تستحم في ماء الحقيقة أمام ذاتها، كي تخرج بعدها أبهى. وذلك ما فعله بنا نص رواية «المغاربة»، لأنه يجعلنا آخرين تماما أمام ذواتنا بعد إنهاء سطرها الأخير. إن الرسالة الأخرى، الأقوى للنص، موجهة للنخبة المغربية، على كافة المستويات، حيث يصنع قرار تدبير قدر المغاربة، أن انتبهوا إن في الطريق مزالق وفخاخ بلا عدد، وأن تكرار سقطات الماضي جد وارد. وأن النص أساسا ليس سوى محاولة لبناء صورة لتلك المزالق وتلك السقطات التي كانت. ها هنا، اللوثة الجميلة، المطلوبة، لرواية الصديق المبدع عبد الكريم جويطي. لوثة السؤال والقلق على «تامغربيت». تلك، التي يقدم النص الباذخ، خطاطة بليغة عنها من خلال التركيب البهي لعناوين الشخصية المغربية. والمغربي اليوم، في حاجة فعليا، لتلك الخطاطة، حتى لا ينسى من هو. وأخشى، أنه هذه أكبر تحدياتنا اليوم، هي نسيان المغربي من يكون. ها هنا، يكمن بهاء رواية «المغاربة»، لأنها تستفز هويتنا، وتوقظ فينا مكامن السؤال. أليس ذلك ما نحتاجه عاليا مغربيا، هنا والآن، في لحظة التحول التاريخية التي نجتازها، منذ قرن من الزمان. التحول من معنى حياة إلى معنى حياة. التحول من منطق البداوة إلى منطق المدينة. أكاد أقول غربة التحول تلك. ورواية «المغاربة» إنما هي محاولة ذكية لمصالحتنا مع تلك الغربة، من خلال السعي لتيسير فهمنا لها، استيعابها وتجاوزها. ما أجملها من محاولة ومن مغامرة.