لعل البحث في التقاطعات والترابطات القائمة بين الجهوية الموسعة والديمقراطية التشاركية هي مقاربة استكشافية تقتفي الخوض في الأبعاد التكاملية التفاعلية ،بعيدا عن معيارية التضاد والتصادم بين طرفي المعادلة التي تمضي في حالة الجمع بينهما والاعتمال بهما إلى إحقاق جملة من الرهانات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ،وامتلاك بوصلة السير الصحيح نحو تكريس «تميمة دولة الحق والقانون» إن هذه التكوينة المركبة والمشكلة من هذه الثنائية وبأصولها النظرية ووقائعها الممارساتية تأخذ منحى التقاطب ذو الاتجاه الاعتمادي التبادلي/ الإيجابي الذي يساهم في إرساء جملة من الدعامات والبناءات التي لها علائقية مفصلية في تدبير الشأن الجهوي ،ويحدث قطيعة وانفصال حتميين مع رواسب العقلية التقليداوية الماضوية في التدبير والتسيير،أي هي مكون جوهري في ردم الأنساق القيمية لنمط الدولة التقليدية التي تقوم على محورية المركز في إتخاذ القرارات التي تهم الشأن الجهوي والوطني ،وتؤسس لأنموذج دولتي يستند على ثنائية التكامل بين المركز والأطراف في سياقات تقعيدية وتطبيقية لمجموعة من الموجبات التي غدت تطرح نفسها بقوة ومن الصعوبة بما كان التنصل منها من قبيل الحكامة ،التشاركية ،التشاور ،التحاور ،سياسة القرب ....،وهي لها جدوائيتها وبعدها الغائي في جعل المواطن محور الاهتمام ضدا ودحضا لفروض ومقدرات الوصائية والإقصائية. فالجهوية الموسعة والديمقراطية التشاركية يمكن لهما السير في خط التوازي نحو إحداث رجات تفكيكية لأوصال ونظمية السلطة الممركزة المهيمنة/ المغلقة ،والانتقال بها إلى فضاءات التقسيم والتوزيع بين الفواعل الدولتية الجديدة وخاصة المدنية في ظل بروز نمط الدولة الحديثة واملاءات العولمة ،وعليه انبثق معطى جديد كل من موقعه يبادر ،يشارك ،يساهم ،يمول ...،كلها استحداثات العصر الحديث لمواجهة التضخم والتفاقم على مستوى المتطلبات الحياتية والمجتمعية على تنوعيتها وتبايناتها. وحتى وان كانت هناك درجات التفاوت من حيث طبيعة السلطة وتوزيعاتها من حيث الدرجة في إطار الجهوية الموسعة وفي سياق الديمقراطية التشاركية، إلا أن مكمنهما القصدي هو عدم مركزة السلطة والاستئثار بها من جهة معينة في معالجة استشكالات السياسات العامة، فإذا كانت الجهوية الموسعة تنبني على توزيع سلطة القرارات بين الدولة والمؤسسات الجهوية مع التخفيف من عب ء الوصاية ،أي بمعنى تقسيم السلطة بين الدولة والسلطة المنتخبة بما يعزز سلطة الجهة في التقرير واتخاذ القرار في كل المجالات التي تهم نطاق تدخلها ،فإن الديمقراطية التشاركية في مضمونها المعياري الإجرائي ينطرح وفقها نمط توزيعي من صنف آخر متعدد الاتجاهات ينبني على أساس منحنيات عمودية وأفقية على خلاف منظور مونتسكيو الذي يرتكز على النمط الأفقي فقط وإنما عموديا أيضا بما يكفل عدم تمركز السلطة والاستئثار بها من طرف المركز ،وبالتالي تكون فضاءات السلطة أكثر انسيابية مرنة وتتوزع على مجموعة من الفاعلين الدولتيين(الدولة،المؤسسات الجهوية،المجتمع المدني،القطاع الخاص.....) كل من موقعه ومركزه في سبيل إحقاق المصلحة العامة ،وبالتالي يبقى متطلب الجمع بينهما فيه فضائل إيجاد الحلول للمشاكل الجهوية مما لهما من قوة الدفع وتجاوز كل العقبات والعراقيل المنضوية ضد أي مسعى ارادوي في التنمية المنشودة. إن الثنائية /اللازمة الجهوية الموسعة والديمقراطية التشاركية قادرتان على تجاوز معوقات تدبير السلطة الجهوية وإحداث نوع من التناغم والتلاحم بين فعل الدولة ومؤسساتها اللامركزية وفعل المجتمع في سياقات الدينامية والحيوية وبمنأى عن الرتابة في التدبير والتسيير ،فهي تتمنطق وتتمحور حول إذكاء ثقافة الاختلاف وتعدد الفاعلين والمرونة والحركية بعيدا عن الجمود والتكلس اللذان أثقلا كاهل التنمية وظلت تراوح مكانها دون تطور أوتحديث أوتغيير يتجاوب مع متطلبات المواطن والعصر الحديث. كيف يمكن للجهوية الموسعة في المغرب أن تكون بيئة استيعابية حاضنة لقيم الديمقراطية التشاركية ونسقها المؤسساتي وقواعدها التنظيمية الإجرائية على أساس المزاوجة بين عمل المؤسسات الجهوية التمثيلية واللجان التداولية المحلية التي تضم المواطنين للحصول على المعلومات وبناء الآراء وحمل التصورات والرؤى على أساس توافقي جامع يؤول إلى ترشيد وعقلنة تدبير السياسات الجهوية بأبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. فالمكمن القصدي للديمقراطية التشاركية هو خلق فضاءات للحوار والنقاش العموميين اللذان يجمعان كل الشرائح المجتمعية للإنصات والسماع لهمومهم ومشاكلهم في سياق التالف والتكاثف والتكامل مع صناع القرار الجهوي ،حيث أن ضمان مشاركة الجميع يؤدي إلى نوع من الإجماع،فهي ضد المؤسسات المنغلقة على ذاتها والتي تتخذ مجمل القرارات بنوع من الاستئثارية ،وبالتالي العمل على التوسيع من دائرة المشاركة /التشارك المشمولة لكل الفواعل الدولتية وتقويض كل النزوعات الاقصائية للمواطن العادي وهجر الانتقائية في تغليب كفة تحقيق وحماية مصالح فئات مجتمعية على أخرى،إنها ديمقراطية تبسط ميزاتها على كل الشرائح المجتمعية في سياق الوصول إلى مبتغى العدالة الاجتماعية ،كما أنها ديمقراطية تعيد ترتيب الأولويات المطلبية والعمل على تجسيدها فعليا دون مواربة أو نقض للعهود والوعود. فالديمقراطية التشاركية حضورها مفيد في تقويم الإعوجاجات والنواقص التي يمكن أن ينتجها الفعل التمثيلي للمؤسسات الجهوية والتي يمكن أن يصيبها الوهن والترهل في الأداء إذا ما استمرت في تبني الخيار البيروقراطي في اتخاذ القرارات وسط التعقيدات الإجرائية التي قد تخطئ الموعد في المقاربة التشخيصية لحاجيات المواطنين والتي تستتبع الخلل على مستوى التقدير والاستجابة في تلبيتها مما قد يعيد تكريس النمط الجهوي السائد ويحصنه ضد أي إصلاح أو تعديل أو تغيير يرتضيه المواطن المغربي وفي ظل انبثاق وبروز متطلبات مجتمعية حياتية برهانات مختلفة ومتباينة الحاجة ماسة إلى تبني قواعد المقاربة التشاركية في التشخيص والتخطيط والتنفيذ والتقويم في بلورة الفعل الجهوي والذي تنطرح بموجبه فضاءات للتعاون والتنسيق والشراكة والمرونة وكلها عناصر تمنح الدافعية أكثر نحو كسب رهان إنجاح الجهوية الموسعة وإعطائها المناعة اللازمة للاستمرارية والديمومة والتكيف والتطور مع المد المتزايد للمتطلبات المجتمعية والفروض الخارجية التي مصدرها العولمة بالدرجة الأولى. لاشك أن النظام الجهوي الذي تم اعتماده في المغرب بداية من الجهات الإدارية وفق ظهير 16يونيو 1971 وصولا إلى التنصيص الدستوري باعتبار الجهة كجماعة محلية ،أل إلى بروز العديد من الاختلالات والتفاوتات مابين الجهات على مستوى التنمية الجهوية بفعل فقدان الجهات لسلطة التقرير ومركزية التخطيط الجهوي للتنمية،وبالتالي فان القطع مع هذا المعطى يفرض في مقدراته اعتماد التخطيط القاعدي التصاعدي بدل التخطيط المركزي التنازلي لمعظم المشاريع التنموية الذي سيؤول إلى التشخيص الحقيقي للاحتياجات وتحديد الأولويات والانتظارات مما يؤدي إلى ترشيد الاستجابة والتحقيق وتكريس المطلوب على مستوى التنمية الجهوية ،مع فتح المجال لإدماج ممثلي الشرائح المجتمعية المهمشة في المسار التنموي. وعلى هذا الأساس وجوبية منح الجهات سلطة التقرير في مجال التنمية مع الأخذ بأدوات ووسائل الديمقراطية التشاركية،من خلال سلك مسلكيات مخطط التنمية الجهوية التشاركية التي تستند الى المبادئ التي تسترعي إشراك المواطنين في جل مراحل انجاز المشاريع التنموية بداية من اعتماد التخطيط التشاركي الذي يعتبر مقاربة آنية واكتشافية واستشرافية لحاجيات المواطنين المستقبلية مع امتلاك إمكانات التنبؤ بالتبدلات الممكنة والفجائية ،وأيضا ينطبق ذلك على مراحل التشخيص التشاركي والذي بموجبه تتحدد الأولويات على مستوى الحاجيات وتجذ ير مسألتي التنفيذ والتتبع وبمشاركة المواطنين المستفيدين من هذه المشاريع التنموية ،والانخراط في عمليات التقويم للمشاريع التي من شانها أن تمكن الفعل التنموي الجهوي من تصحيح مساراته وتصويب اختلالاته. إن أساليب الديمقراطية التشاركية تمكن من تفعيل التواصل داخل الجهات من خلال إحداث دائرة تحاورية وتشاورية بين جميع المتدخلين وحتى المتعاونين الخارجيين وتؤدي إلى حسن تدبير المشاريع التنموية بنوع من الترشيد والحكامة الجيدة،وتساهم في الرفع من قدرات الجهات في التخطيط التنموي،ويصبح بموجبها المواطن صانع القرار التنموي يخطط ويشخص ويتابع ويضمن استدامة المشاريع، وبالتالي تحقيق متطلبات التنمية الجهوية المنشودة. إن سبر أغوار السرد الكرونولوجي لمجمل اعتلالات النظام الجهوي في المغرب يدفعنا إلى التفكير مليا في عدم اجترار الأخطاء واستحداث نفس النموذج التدبيري والتسييري للفعل الجهوي،وبالتالي وجوب عدم إنتاج مؤسسات جهوية منكفئة على ذاتها ونخبة جهوية مغتربة عن محيطها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي وتعمل في فلك خاص بها بعيدا عن انشغالات المواطنين،وعليه تبقى مسألة الأمرية التوظيفية للتشاركية متطلب غير قابل للتأجيل ومسعى حتمي وجبري للارتقاء بالفعل الجهوي إلى مصاف التجارب الجهوية المقارنة التي اتخذت التشاركية بمختلف محمولاتها كمنهج وكمسلك مكنها من تحقيق مختلف الرهانات المجتمعية،فالديمقراطية التشاركية تجعل المواطن في محور وصلب الفعل الجهوي وتزكي مجموعة من المبادئ التي ما أحوجنا إليها ،وهي التواصل الأفقي /العمودي واحترام الرأي الأخر وتحديد المسؤوليات والالتزام ،وإذكاء ثقافة التضامن والتعاون والتشاور والفعل الجماعي وإقرار الوضوح والشفافية في التدبير والتسيير على المستوى الجهوي. * أستاذ جامعي،الكلية المتعددة التخصصات،الرشيدية.