لا تصلح العيون لأي شيء إذا كان العقل أعمى... شهدت سنتا 2015/2016 تسابقا محموما على تحويل فيلم « الجريء» إلى سلسلة تلفزية شهيرة للحركة والمغامرات، يتابعها الملايين من المشاهدين من بقاع العالم بمؤثرات بصرية كبيرة في جزأيها الأول والثاني... وهي عن بطل أسطوري أعمى بمواصفات سوبرمانية يحول ضعف بصره لقوة خارقة لا تقهر، وإلى بطل أسطوري يحقق العدالة المفتقدة داخل المجتمع الرأسمالي..بهذا المعنى لا تخرج السينما عن هذا المقاس، كأداة دعائية وتسويقية تبحث عن الربح ... لذا تستدعي الضرورة طرح بعض الأسئلة المقلقة من قبيل: هل تصدق هذه المعادلة في اعتبار أن التفكير والإحساس مثل أعمى يقوده شخص أعرج ؟ ؟...هل صورت السينما الأعمى / العمياء كإنسان عادي يخلو من المشاعر والأحاسيس؟ هل انتقصت من إنسانيته؟ هل تعاطفت معه ؟ هل عملت السينما على إبراز مطالب هذه الفئة الهشة داخل المجتمع؟ لماذا هذه القلة في أفلام العميان في السينما؟ هل يتعلق الأمر بشخصية الأعمى المعقدة والتي تتطلب جهدا فكريا ومتابعة رصينة لتقديم هذه الشخصية بتعقيداتها؟ هل تدخل سينما الأعمى في خانة سينما الغموض والبحث عما هو خارج المألوف؟ وكيف تم استغلال هذه « العاهة « من قبل هوليود في إنتاج أفلام شباك التذاكر؟ مما يضعنا أمام إشكالية كبرى: كيف تستغل العاهات داخل السينما بعيدا عن الرؤى الفنية والجمالية، بحثا عن تحقيق مزيد من الأرباح وترويج الكثير من السخافات واستدراج العواطف... منذ التسعينيات من القرن الماضي وحتى اليوم تطرقت أفلام قليلة للأعمى داخل السينما ... من بين هذه الأفلام فيلم « جينفر8 « (124دقيقة/ 1992 ) الفيلم الثالث في مسار المخرج والقاص والممثل البريطاني روبير رونسون..و يحكي عن جون برلين (أدى الدور الممثل أندي غارسيا) وهو شرطي في وحدة لوس أنجلس، بعدما أغرق زواجه وعانى من مشاكل تعاطيه الكحول، انتقل إلى بلدة صغيرة حيث تقيم شقيقته وصديق قديم، ومع ذلك مع وصوله بوقت قصير بدأت سلسلة من الجرائم المتسلسلة بنوع من السرعة، بحيث لا يمكن إغلاقها في ذات الوقت وكذلك قتل صديقه. فيلم ذكي يهرب من روتين تصنيف الأفلام بالتركيز على موضوعة الأعمى/ العمياء في السينما وتسليط الضوء عليها. في الفيلم نجد العمياء هلينا روبنسون (أدت الدور إيما ترومان ) شابة جميلة في مقتبل العمر تدخل في قصة حب مع الشرطي جون برلين. أغلب مشاهد الفيلم تم تصويرها في الليل وتميل إلى سينما الخوف والتربص. القاتل يقتل فقط النساء اللواتي لا يبصرن وتدخل هلينا روبنسون في حساباته. يركز الفيلم على شخصية العمياء من خلال تحركاتها داخل الشقة ومعرفة المسافة الفاصلة بين الأشياء، وكذلك قدرتها على معرفة الأشياء باللمس والإحساس بها، كما يركز على بسمتها وضحكتها، وحتى في اللقطات الحميمية هناك إحساس وشعور بالآخر. وكما يقال» الحب أعمى ولكن الجيران ليسوا كذلك « ... يحاول القاتل التسلل إلى شقتها ومحاولة قتلها. فيلم آخر «رائحة امرأة» (1992/157 دقيقة) للمخرج مارتن بريست يحكي عن فرانك سلاد، وهو كولونيل متقاعد في الجيش الأمريكي ،غاضب جدا ومتسلط(آل باتشينو) عليه التعامل مع طالب يدعى شارلي سيميس(كريس أودنييل ) الذي يترك عائلته وراءه، وعلى الشاب أن يجاري حماقات الأعمى الذي يكاد يعرف كل شيء ولا يرفض له طلبا ويرافقه إلى نيويورك بحثا عن « رائحة امرأة «. شهرة هذا الفيلم تعود للممثل الشهير آل باتشينو الذي أجاد تجسيد هذا الدور المعقد، وله قدرة كبيرة على الرقص مع المرأة التي يشتهيها، وملاحظة الأشياء ومتابعتها وتوجيه الشاب والقدرة على توجيه المسدس صوب الأعداء والقدرة كذلك على العراك. فيلم أقل ما يصوره هو غطرسة رجل السلطة ومحاولة التحكم في الشاب وتوجيهيه كيفما يشاء. بالعودة للفيلم الشهير «رائحة امرأة» (للمخرج دينو روسي /1974) وأن فيلم «رائحة امرأة» (1992 ) ينقصه كل شيء ولا يتضمن أي شيء. فيلم «لأول وهلة» (1999/157 دقيقة ) للمخرجة اروين وينكلر يستند إلى قصة حقيقية لطبيب الأمراض العصبية والمؤلف الانجليزي أوليفر ساكس: يحكي الفيلم عن مديرة تنفيذية ( ميرا سورفينو) تحضر للاستجمام وتلتقي بمدلك أعمى يدعى (فال كيلمر) وتعيش معه قصة حب عميقة جدا. العميق في الفيلم أن بطل الفيلم يرغب في استمرار حالة الأعمى على أن ينظر للواقع المشين كما هو بعينيه المبصرتين. الفيلم ضعيف على عدة مستويات، فمن حيث بنائه السردي، لا يمكن تصنيفه في خانة الدراما العاطفية أو الإثارة.. فيلم يطرح كل شيء ويسبح وراء التفاهات.. باختصار شديد يفتقر إلى الرؤية الواضحة ويفتقر إلى مقومات الفيلم السينمائي، رغم تجربة المخرجة وعملها كمساعدة لمخرج شهير هو مارتن سكور سيزي. كما هي عادة السينما الهوليودية، بتطرقها لمواضيع جديدة وبثلة من الممثلين المشهورين: بن أفليك، جينفر غارنر، كولن فاريل.. يأتي فيلم « الجريء « (2003 ) للمخرج مارك ستيفن جونسون.. ويحكي الحركة وسوبرمان، قصة محام أعمى يدعى (مات مردوخ) له قدرة خارقة في بصره للتعويض عن باقي حواسه، خصوصا في الليل، ليناضل ضد كل أشكال اللاعدالة.. فيلم يدخل في إطار أفلام شباك التذاكر وفي مسايرة المواضيع الجديدة والغريبة. ويذكر أن هذا فيلم الجريء « تم تحويله إلى سلسلة تلفزية سنة2015، وإعادة استغلالها على أوسع نطاق مع مؤثرات بصرية سينمائية فائقة بغية تسويقها بنفس ذات محتوى الفيلم. فيلم «راي شارلي روبنسون» (2004 ) للمخرج تايلور هاك فورد.. يتناول السيرة الذاتية للعازف والمؤلف الموسيقي والمغني راي تشارلي (من أداء الممثل جيمي فوكس ).. يُقدم في الفيلم بإخفاقاته وانتصاراته التي وقعت في فترة عمله الطويلة، مع تسليط الضوء على الرجل الاستثنائي وعلاقاته بالنساء بشكل لا يتصور. الفيلم يرتكز على قصة لأكبر الموسيقيين تأثيرا والأعظم في كل العصور..وبتعبير أدبي يعتبر هو من أفضل أفلام السيرة الذاتية، ليست فقط المسلية بل بقدرتها الحيوية على الحكي بطريقة رائعة لقصة الموسيقار الفاقد للبصر. نال الممثل جيمي فوكس جائزة أوسكار عن هذا الدور الذي جسده بكثير من الاحترافية رغم تعقيدات الدور والشخصية التي يحفل بها. فيلم «العميان» (2006 /104 دقيقة) فيلم وثائقي من إخراج الإنجليزية لوسي ولكر.. نال مجموعة من الجوائز العالمية عن مجموعة من الشباب عميان إناثا وذكورا تسلقوا جبل ايفرست بهضبة التبت..في ظل نصيحة من امرأة ملتزمة بقضيتهم.. فهم مهمشون من قبل المجتمع.. تصور المخرجة اللحظات الصعبة في هذا الفيلم ومعاناتهم والشجاعة في تحدي الصعاب والوصول إلى القمة رغم إعاقة البصر. فيلم « عيون جوليا « (2010) للمخرج غويوم موراليس.. وهو فيلم إسباني، حيث تعيش شقيقتان حالة من الكرب تنتهي بالعمى. الشقيقة الأولى تنتحر مع بداية الفيلم مما يستدعي حضور الشرطة، في حين تكابد الشقيقة الناجية بيلين رويدا الأمرين وتواجه حالات الشك القاتلة في بحثها عن حل للعمى الوشيك. فيلم « الإحساس الرائع « (2011) للمخرج الانجليزي دافيد ماكنزي .. يحكي عن قصة حب بين باحثة (ايفا غرين) وطباخ (ماك غريغور).. في بحثهما عن أوبئة وحالة من العمى الذي بدأ ينتشر يجتاح أوربا ويحاولان إيجاد وسيلة للعلاج. فيلم « تخيل « (2012) من إخراج أندريس جاكي موسكي ..فيلم برتغالي يحكي عن وصول أستاذ أعمى معالج إلى مدرسة للمكفوفين.. يجمع بين أساليب حديثة يتلقاها التلاميذ العميان بنوع من الايجابية، في حين ترفض إدارة المدرسة هذه الطرق الجديدة ويدخل المدرس في حالة صراع مع الإدارة والعقلية القديمة. الفيلم من بطولة أطفال عميان.. يزجون بأنفسهم في عوالم مجهولة لاكتشاف حقائق عجيبة. فيلمان عربيان قدما صورة للأعمى رغم تباعدهما الزمني «الكيت كات» (1991) و «جوق العميان» (2015)... في الفيلم الأول للمخرج داوود عبد السيد نكتشف في حي الكيت كات شخصية الشيخ حسني الكفيف والكثير من الأسرار الاجتماعية لسكان الحي: تعاطي المخدرات، الدعارة، العجز الجنسي، البطالة .. باختصار شديد تناقضات الإنسان العربي والشيزوفرنية القاتلة التي يعيشها.... بينما في « جوق العميان « للمخرج محمد مفتكر .. مجموعة من الفنانين الشعبيين يتظاهرون بالعمى لإقامة حفلات خاصة بالنساء في مجتمع محافظ ... يدخل / يتسلل هؤلاء العميان إلى مجموعة من أعراس وأفراح حريم بعض العائلات ذات العقلية الذكورية ويكتشفون ويكشفون الكثير من الأسرار المقلقة داخل المجتمع المغربي وتناقضاته. عموما السينما العربية لم تول اهتماما كبيرا لفئة الأعمى / العمياء واحتياجاته المادية والنفسية في ظل حالة الانكسارات التي يعيشها الوطن العربي على أكبر من صعيد. داخل هذه الأفلام التي تعتني بالعميان في السينما ليس هناك بطولة جماعية، فقط في ثلاثة أفلام: الفيلم البرتغالي « العميان « والفيلم المغربي « جوق العميان « ثم الفيلم الانجليزي عن عميان هضبة التبت ومقاربة أوجاعهم ومعاناتهم.. ما عدا هذا هناك بطولات فردية ترمي لإبراز نفسية الأعمى وعلاقاته الاجتماعية المحدودة بين الجدران والقاعات المغلقة... حالات بطولة العميان في السينما اعتمدت على الأطفال والشبان والشابات، في حين استبعدت فئة الشيوخ ..بل هناك أفلام استغلت عاهة الأعمى لتقحمه في دوائر فارغة وفي مجموعة من المشاهد الجنسية السطحية لجلب مزيد من المشاهدين. فيلم لذكرى الأجيال : دوستي في مدينة صغيرة ومهمشة هي قلعة السراغنة وسط المغرب..وفي سينما وحيدة أشبه بدور السينما، لا خبر في المدينة في بداية الثمانينيات من القرن الماضي إلا عن « مجيء «الفيلم الهندي الشهير «دوستي» / «الصداقة».. مازلت أذكر بعيون الطفولة مشهد الازدحام و الطريق الرئيسية التي قطعت جراء قدوم الجماهير نساء وأطفالا ورجالا.. بصراخهم وصخبهم لمشاهدة الفيلم...داخل القاعة ساد صمت رهيب جراء المشاهد الدرامية المؤثرة، وبين الفينة الأخرى تتعالى ضحكات ونحيب كئيب يختصر روعة السينما. شاهدت الفيلم أكثر من مرة على مرور السنين... عن قصة ظريفة لطفلين تجمعهما صداقة موغلة في الحب أحدهما أعمى والآخر مقعد ... هذا الفيلم المدبلج للدارجة المغربية شكل وعي أجيال مغربية وحبها للسينما بنظرة إنسانية عميقة ومعرفتها ببلد تليد الحضارة هو الهند. جمالية السينما تكمن في تقديم كينونة الأعمى ووجوده في حالاته الإنسانية، ولكن الكثير من المخرجين يسعون للشهرة على حساب عاهات الآخرين والادعاء بنقل مرارة الأعمى وواقعه الهش لفئة تحتاج الكثير من المساعدة.