يبدو، من منطق التجزيء ألا رابط بين موقفين اثنين، صادرين عن بنيتين اثنتين متباعدتين في حقل الدلالة وفي حقل المجتمع.. حكم صادر عن مؤسسة القضاء المغربي للأسرة.. وهو مشروط بهندسة القضاء، ومساطره ومنطلقاته وحكم، هو في مرتبة الفتوى، صادر عن المجلس الأعلى العلمي في المملكة.. الأول :حكم قضائي يعترف بالأبوة من علاقة غير شرعية... الثاني: موقف صادر عن المجلس العلمي الأعلى يتراجع فيه عن تأييده لقتل المرتد.. ويبدو الحكمان كما لو أنهما يخلخلان ثوابت فقهية وأخرى سلوكية وذهنية، لم يكن التفكير فيها، بالأحرى التشريع فيها أو الإفتاء، محط مغامرة مهما كانت بسيطة. والحال أن شيئا ما لم يكن متوقعا ..قد وقع! ولابد من أن يعتبر ذلك بسبب تغيير، لا يمكن أن يظل معزولا أو في سدرة المستثنى.... فقد أصدرت المحكمة الابتدائية بطنجة حكما قضائيا، هو الأول من نوعه في تاريخ الاجتهاد القضائي العصري، يقر «مبدأ حق الطفل المولود خارج إطار الزواج في الانتساب لأبيه البيولوجي»، ويقضي في الآن نفسه «بتعويض الأم عن الضرر الذي لحقها من جراء إنجاب ناتج عن هذه العلاقة»... التفاصيل تعطي معنى دقيقا نوعا ما للحكم الجريء: * المحكمة اعتمدت في حكمها على عدد من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الطفل التي صادق عليها المغرب، مقرا حق الطفل الطبيعي في معرفة والديه البيولوجيين،... وبذلك يكون المبدأ الكوني قد ساعد القاضي الشجاع على تجاوز الارتهان إلى زاوية «الزنا» التي ظلت تتحكم في مثل هذه الولادات.. والتي طغت على النقاش العام في لحظات معينة اتسمت في لحظات تشنج رهيبة بالهجوم الكاسح على السيدة عائشة الشنا، الراعية الشجاعة والاجتماعية للأمهات العازبات..واتهامها بنشر الرذيلة. ويظهر أن البيولوجيا والحق الطبيعي انتصرا على تخوفات الاعتبار الأخلاقوي، والجمود الفقهي الذي لم يساير كثيرا في هذا الباب. نحن أمام قضاء يعاين الحياة كما هي، ويحكم بما تراكم من معرفة وعلم ..وبذلك يكون البحث البيولوجي والجنائي، قد ساعدا القضاء على تصحيح وضع، وتقليص دائرة «اللاشرعية» في العلاقات الاجتماعية وحماية الابن من ترحال الطبيعة الجنسية للأب..! هناك علم حديث، لم يكن الفقه القديم يعلم به، والقضاء سمح بدخول الاجتهاد إلى العلاقات الاجتماعية ، مع تعليق التفسير الأخلاقوي الذي يعطله! أما اقتسام الخطيئة بين الأب الطبيعي والأم، فليس مجال التعليق عليه هاهنا.. ** الحكم الثاني، يحتمي بدوره بتأويل سياسي لحماية المعتقد من قهر الردة! حيث كان المجلس العلمي قد أثار جدلا واسعا حول قتل المرتد منذ 3 سنوات، واليوم يعود المجلس العلمي الأعلى إلى إعادة النظر في الفتوى الشرعية ذاتها بنفس غير مألوف، بعد أن غير الزاوية! المجلس العلمي الأعلى اعتمد وثيقة سماها ب «سبيل العلماء»، وضمنها فهمًا جديدًا للردة وحكم الذي ينبثق منها..، حيث اعتبرها «سياسية وليست فكرية»، تشبه الخيانة الوطنية كما في الحكم المعاصر. فالانتقال لا يتم من الإيمان والكفر، بل من الوطن العقائدي إلى أعدائه.. وهو اجتهاد يفتح المجال للرأي الأقرب، كما في تقدير المجلس.. في الوثيقة نقرأ «: لقد أثيرت في الإسلام قديماً ولاتزال تثار قضية الردة والمرتد، ويبقى الفهم الأصح والأسلم لها المنسجمُ مع روح التشريع ونصوصه ومع السيرة العملية للنبي صلى لله عليه وسلم أن المقصود بقتل المرتد هو الخائن للجماعة، المفشي لأسرارها والمستقوي عليها بخصومها؛ أي ما يعادل الخيانة العظمى في القوانين الدولية». وقال المجلس العلمي الأعلى في شرح حيثيات فهمه أن «ترك جماعة المسلمين لم يكن حينها إلا التحاقًا بجماعة المشركين، الذين هم خصومهم وأعداؤهم في سياق الحروب الدائرة بينهم»، قبل أن يخلص إلى أن «الردة هنا سياسية وليست فكرية»... وأضاف المجلس، حسب المصدر ذاته، أن قتال أبي بكر للمرتدين «لم يكن إلا بالمعنى السياسي العام، ضد طائفة شقت عصا الطاعة على الإمام، وأرادت أن تفرق وحدة الجماعة، وتفسد فهم الدين بتعطيل أحد أركانه»، على أساس أن الدين «كان ولايزال عمود الاستقرار الأساس في المجتمع. وما كثير من الفتن والحروب الدائرة اليوم إلا بسبب فساد تأويله وسوء استغلاله وتوظيفه». ويتضح من خلال الحيثيات أن هناك «توطينا» سياسيا للفتوى، ولفهم الأساس الديني لها.. كما أنه يعطي للسياق الواقعي قوة الحجة التي تعادل قوة القناعة الدينية..بدون المس بجوهر العقيدة نفسها! نحن أمام مجالين، هما الفتوى الدينية والحكم الفقهي، ...وقد تم تأويلهما في العصر عبر مجالين محايثين: السياسة والقضاء.. هل يعني ذلك أن تخصيب النقاش في المجال التقليدي سيستفيد من المجال الحديث لتنظيم الدولة والمجتمع؟ قد يصنع الربيع من سنونوتين فقط!!