ستظل صدمة 16 ماي موشومة في ذاكرة التاريخ المغربي، وهي الصدمة التي أثبتت أن خرافة البلد الآمن أوقعتنا جميعا في غفوة استغلها جيدا فقهاء الظلام ليفردوا أجنحتهم في سمائنا، حيث حولوا بؤر الفقر إلى مشاتل خصبة لتجنيد الانتحاريين، إلى أن أصبح المغاربة مقاتلين عابرين للقارات، وإلى أن أصبح صيتهم يسبق عملياتهم التي تتحول معها الأجساد إلى قنابل موقوتة لا تجبن أمام الموت.. لقد استطاع هؤلاء الفقهاء أن يدفعوا الشباب إلى تمجيد الموت بدل الحياة، بحثا عن الجنة وكسب الثواب! إن ذكرى مرور 8 سنوات على 16 ماي هي ذكري للتأمل والاحتراز وإعادة النظر في الممكن من المستحيل. فما وقع في الدارالبيضاء، في تلك الجمعة، لم يكن متوقعا إلا في الأفلام السينمائية، أو في فلسطين أو العراق. أما أن يبادر شباب يشبهوننا في كل شيء إلى نفث أحقادهم الدموية في وجوهنا بتلك الوسيلة الاستعراضية الصادمة، فلم يكن أي مغربي يتخيله على الإطلاق. ولما تحرك الأمن، اكتشفنا أننا نقيم فوق كتبان رملية متحركة، وأن الملح فسد، وأن لا مجال لخط الرجعة بالنسبة لعشاق الدمار، مما يقتضي التعامل مع هذا الفعل الإجرامي بالجدية اللازمة، والخروج من النزعة التبريرية. ولعل هذا ما انتبه إليه ذ. خالد البقالي القاسمي حينما كتب: والغريب في الأمر هو أن الفعل اللاعقلاني هو الذي يحظى أحيانا بمكانة أهم مما يحظى به الفعل العقلاني، وخصوصا على مستوى الاهتمام والتفسير والتأويل، فقد أنتج كلام كثير حول أحداث 16 ماي بالدارالبيضاء من حيث مستوى الاهتمام بهذه الأحداث، ووتيرة تفسير دوافعها وأسبابها، ودرجة تأويل تداعياتها وتأثيراتها، ولكن يبقى الأساس هو أن هذه الأفعال برمتها واستحضارا لأسبابها ودوافعها ومرجعياتها لا يمكن بتاتا أن تصنف ضمن مجال الاختيار العقلاني إلا ضمن سياق واحد، وهو سياق حملها على محمل الجد، والابتعاد عن وصف الاحتياط من تبعاتها بالمغالاة، إذ أنها لا تستحضر كذكرى إلا من أجل تذكرها واستحضار أخطارها وافتراض أخذ وسائل الحذر منها، وسائل فكرية وثقافية ومادية فعلية ملموسة. عندما نستحضر هذه الذكرى التي هي فعلا ذكرى الألم والحسرة والحزن بكل شدة وقوة، لا يمكن تصور الأمر إلا بهذه الشاكلة، وخصوصا بالنسبة للذين جربوا فاجعة الفراق والموت، فالمرأة التي فقدت زوجها من الصعوبة جدا أن تفتح صفحة جديدة في حياتها مع زوج آخر وهي في كل لحظة تتذكر كيف تقطعت أشلاء زوجها الأول وطارت في الهواء، إذ أنى لمثل هاته الصورة الدرامية أن تمحى من الذاكرة؟ والأطفال الذين حرموا من والديهم يتذكرون في كل لحظة عناقيد الحقد والظلام وألوية الموت التي عصفت بحياة من كانوا أحن عليهم من أنفسهم، فالفاجعة هاته لا يمكن بتاتا أن تنسى، وينمو الأطفال ويكبرون وهم يحملون الآثار النفسية المريعة لهذه الصورة المأساوية التي عاينوها في أحب الناس إليهم، ونفس الصيغة تقال بالنسبة للآباء والأمهات الذين فقدوا أبناءهم.. إن فاجعة هذه الذكرى لا يمكن أن تمحى إلا بواسطة الأمن النفسي المفتقد. وأيضا بتحويل الأمن إلى جدار سميك غير خاضع للاختراق بدل الارتخاء الذي يراوح مكانه كلما خفت تحركات الانتحاريين واستقروا في خلاياهم النائمة، حتى سمعنا عن اختراق الإرهابيين للجيش وتمكنهم من استقطاب جنود وطيارين وأثرياء، إلى جانب احتمال استحواذهم على أسلحة، مما يقتضي طرح السؤال التالي: من يراقب من؟ أين هو الأمن العسكري؟ وهل ضباط المكتب الخامس الموجودون في كل وحدة عسكرية يقومون بواجبهم على أحسن وجه؟ وهل جهاز المكتب الرابع يتوفر على الآليات الكفيلة بحماية الدخيرة والسلاح؟ وهل التراتبية الموجودة تنهض لطمأنة صناع القرار؟ لقد اقتنى المغرب، في نهاية العام ((2003 أربع طائرات مروحية أمريكية من نوع لاما من أجل تعقب المشتبه بهم من الإرهابيين، وقيل إنها مجهزة بكاميرات تسجيل مرتبطة عبر الساتل بقاعة مواصلات لغاية تتبع تحركات الطائرات والتقاط إشاراتها واستقبال المحادثات التي تجري بين المطاردين والتقاط أرقام اللوحات المعدنية للسيارات وصور راكبيها والمتوارين في الأذغال والمحتمين بالظلام، كما تتوفر على كشافات ضوئية تعمل بأشعة تحت الحمراء لتسهيل الرؤية والقيام المطاردات الليلية في الأماكن التي يفضل الإرهابيون ارتيادها. لكن هذه الطائرات عجزت، في أول امتحان حقيقي لها بحي الفرح، عن التقاط حملة الأحزمة الناسفة الذين كانوا يلوذون بالسطوح. وقد فطن المغرب أيضا إلى لزوم تطوير تكنولوجيا التعقب وفحص الهوية، وضرورة تطوير تقنيات البورتريه روبو، ذلك أن الملاحقين يلجأون إلى تبديل ملامح وجوههم، لكن قوة الاستقطاب وعنقودية الجماعات الإرهابية تجعل الأمن يطارد الأشباح (حالة الأخوين مها)، مما يقتضي تكثيف المراقبة وتفعيل نظام الجذاذات ومراقبة الشباب المتدين بدون استفزاز أو تسلط، والتعامل معهم عبر خطاب محدد وواضح، وإبعادهم عن المذاهب المتطرفة مثل الوهابية والرافضية والخوارج.