بسبب تعديلات مدونة الأسرة.. البرلمانية اليسارية التامني تتعرض لحملة "ممنهجة للارهاب الفكري"وحزبها يحشد محاميه للذهاب إلى القضاء    تحويل الرأسمالية بالاقتصاد اليساري الجديد    غير كيزيدو يسدو على ريوسهم: الجزائر انسحبت من كاس العرب فالمغرب بسبب خريطة المغربة    نجم مغربي يضع الزمالك المصري في أزمة حقيقية    الاستعمالات المشروعة للقنب الهندي .. إصدار 2905 تراخيص إلى غاية 23 أبريل الجاري    رصد في ضواحي طنجة.. "القط الأنمر" مهدد بالانقراض ويوجد فقط في حدائق الحيوانات    المغربي إلياس حجري يُتوّج بلقب القارئ العالمي للقرآن    تأملات الجاحظ حول الترجمة: وليس الحائك كالبزاز    حفل تقديم وتوقيع المجموعة القصصية "لا شيء يعجبني…" للقاصة فاطمة الزهراء المرابط بالقنيطرة    مهرجان فاس للثقافة الصوفية.. الفنان الفرنساوي باسكال سافر بالجمهور فرحلة روحية    الدراجات النارية وحوادث السير بالمدن المغربية    عملية رفح العسكرية تلوح في الأفق والجيش الاسرائيلي ينتظر الضوء الأخضر من نتانياهو    بوغطاط المغربي | محمد حاجب يهدد بالعودة إلى درب الإرهاب ويتوّعد بتفجير رأس كل من "يهاجمه".. وما السر وراء تحالفه مع "البوليساريو"؟؟    توقعات أحوال الطقس اليوم الخميس بالمملكة    مكتب التكوين المهني/شركة "أفريقيا".. الاحتفاء بالفوجين الرابع والخامس ل"تكوين المعل م" بالداخلة    واشنطن طلبات من إسرائيل تعطي إجابات بخصوص "المقابر الجماعية" ف غزة    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    الصين تكشف عن مهام مهمة الفضاء المأهولة "شنتشو-18"    الولايات المتحدة.. أرباح "ميتا" تتجاوز التوقعات خلال الربع الأول    بطولة فرنسا: موناكو يفوز على ليل ويؤجل تتويج باريس سان جرمان    أخنوش: الربط بين التساقطات المطرية ونجاح السياسات العمومية "غير مقبول"    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    بني ملال…تعزيز البنية التحتية الرياضية ومواصلة تأهيل الطرقات والأحياء بالمدينة    ما هو سيناريو رون آراد الذي حذر منه أبو عبيدة؟    اتفاقية الصيد البحري..حجر ثقيل في حذاء علاقات إسبانيا والمغرب!    تعزيز التعاون الفلاحي محور مباحثات صديقي مع نائبة رئيسة مجلس النواب التشيكي    أخرباش تشيد بوجاهة القرار الأممي بشأن الذكاء الاصطناعي الذي جاء بمبادرة من المغرب والولايات المتحدة    رابطة للطفولة تعرب عن قلقها من التركيز المبالغ فيه على محور التربية الجنسية والصحة الإنجابية للمراهق في دورة تكوين الأطر    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    المنتخب المغربي ينهزم أمام مصر – بطولة اتحاد شمال إفريقيا    المنتخب المغربي لأقل من 18 سنة يفوز على غواتيمالا بالضربات الترجيحية    نور الدين مفتاح يكتب: العمائم الإيرانية والغمائم العربية    عاجل.. كأس إفريقيا 2025 بالمغرب سيتم تأجيلها    جنايات أكادير تصدر حكمها في ملف "تصفية أمين تشاريز"    الشاطئ البلدي لطنجة يلفظ جثة شاب فقد الأسبوع الماضي    أخنوش يرد على خصومه: الدولة الاجتماعية ليست مشروعا ل"البوليميك" والحكومة أحسنت تنزيله    بالأرقام .. أخنوش يكشف تدابير حكومته لمساندة المقاولات المتضررة جراء الأزمة الصحية    قميصُ بركان    مطار مراكش المنارة الدولي: ارتفاع بنسبة 22 في المائة في حركة النقل الجوي خلال الربع الأول من 2024    المغرب ومنظمة "الفاو" يوقعان على وثيقة "مستقبل مرن للماء" بميزانية 31.5 مليون دولار    بنكيران يهاجم أخنوش ويقول: الأموال حسمت الانتخابات الجزئية    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    إستعدادُ إسرائيل لهجوم "قريب جداً" على رفح    برنامج دعم السكن.. معطيات رسمية: 8500 استفدو وشراو ديور وكثر من 65 ألف طلب للدعم منهم 38 فالمائة عيالات    الفوائد الصحية للبروكلي .. كنز من المعادن والفيتامينات    دراسة: النظام الغذائي المتوازن قد يساهم في تحسين صحة الدماغ    مدير المنظمة العالمية للملكية الفكرية : الملكية الفكرية تدعم جميع جوانب الحياة في المغرب، بما في ذلك الزليج    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون        كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    اختتام فعاليات الويكاند المسرحي الثالث بآيت ورير    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    الموت يفجع شيماء عبد العزيز    أسعار الذهب تواصل الانخفاض    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



« سِيرْ ألزّاوْيَة....»

بِصدُور ديوان « كلام آخر» للشاعر أحمد لمسيّح، تطأُ قصيدةُ الزجل في المغرب أرضاً جديدة، لمْ تعهدْها من قبل. أرضُ قصيدة النثر التي بلغتها مراكبُ القصيدة العربية مطلعَ ستينيات القرن الماضي مع الكتابات الفكرية والتنظيرية لأدونيس، بدءً من مقالته « في قصيدة النثر» المنشورة بالعدد 14 من مجلة « شعر» .
سبقٌ جديدٌ يُسجّله الشاعرُ أحمد لمسيح، الذي تكتسبُ تجربتُه الشعرية أهميةً ووضعيةً خاصة في متن القصيدة الزجلية الحديثة. ليس بصفته أوّل شاعر يُصدرُمجموعة شعرية في تاريخ هذه القصيدة: « رياح ...التي ستأتي» سنة 1976، مُعلنا بذلك انتقال القصيدة الزجلية من بنية الشفوي إلى رحابة الكتابي، مع ما يستتبعُ ذلك من قضايا وأسئلة نظرية وشعرية جديدة، وليس لأنّ مساره الشعري، عبرأربعة عقود من الكتابة الزجلية، أثمرَمجاميع شعرية، تُبوّئه المرتبة الأولى من حيث عدد الإصدارات وتؤشّرعلى امتلاك لمسيّح لمشروع كتابي وشعري يرومُ تحديث القصيدة الزجلية الحديثة، بلْ لأنّ هذه التجربة توفّرلنا ولكافة الباحثين ودارسي قصيدة الزجل في المغرب، الشروطَ اللازمة لمعرفة وفهم مساروإبدالات هذه القصيدة وعلاقاتها بمشروع تحديث شعرنا المغربي. ويتأتّى لها ذلك بسبب الإقامة المتجذرة لصاحبها في جغرافية الشعر، واختراق تجربتِه لأجيال شعرية، عاش وقصيدتُه معها تحوّلاتٍ وإبدالات عميقة مسّت استراتيجية الكتابة الشعرية بالدارجة المغربية وغيّرت درجات الوعي بها كخيار شعري وفني و جمالي.
تجربة شعرية مديدة ورحبة. اختار الشاعر، وهو يصوغُ عنوانَ ديوانِه « كلام آخر»، أن يضعَها وراءه منتصرا لقول جديد، مغاير ومختلف لِماسبق قولُه ونشره لما يقرب من ثلاث عقود ونيّف.
والواقعُ أنّ ديوان « كلام آخر» ليس أوّل إبدالٍ شعري وكتابي يتحقّق للشاعر ولقصيدته، التي دأبت على مفاجئتنا، كلّ مرة، بالرشاقة التي تمتلكُها لإحداثِ الانعطافات اللازمة لتأكيد حيوية قصيدة الزجل وديناميتها ونجاحِها في مواكبة مشروع الحداثة الذي انخرط فيه متنُنا الشعري المغربي.
فقد حصلَ أوّلُ إبدال مع ديوان» أشكون طرز الما؟»، الصادرسنة 1994، الذي تخلّصت فيه قصيدةُ لمسيّح من واقعيتها وإنشاديتها التقدمية، التي امتدت منذ قصيدة « بلادي ألمزوقا من برا» ( 1976 ) إلى قصيدة « كذا من قبة تزارومولاها ف النار « ( 1987 ) وتحرّرت من تعالُقها مع المدونة الشعبية ( أمثال، خرافات، أغاني، شعر شعبي..) لتحاورَ مرجعيات أخرى، أهمها الأدب الصوفي ، رموزُه ورجالاته .
سيفتح ديوان « اشكون طرز الما؟ « البابَ أمام سلسلة من الإبدالات الشعرية والكتابية التي ستطالُ تجربة الشاعر أحمد لمسيّح، لتؤشّرعلى رؤية شعرية مغايرة ومختلفة تجسّدت في الانكفاء على الذات، والسعي لاستعادتها وتحريرها من الذوات الأخرى التي سكنتها:
بغيتْ نتصنّت لعظامِي
بغيتْ نتصالحْ مع أيامِي
بغيتْ كهف فيه نتخلوَى
( ديوان « اشكون اطرز الما؟ « ص 8 )
سيتعزّزهذا الإبدالُ الشعري والكتابي في ديوانه الزجلي الثالث « توحشت راسي»، حيث سيُعمّق لمسيّح المسافة بينه وبين متلقيه، الذين اعتادوا عليه في قصائد تنتصِرُ لهم ولصوتهم الجماعي، فيما «توحشت راسي» يُعلنُ حاجةَ الشاعرلاسترجاع ذاتِه واسترداد صوتِه الشعري من الآخرين، ليجعلَه قريبا منه، معبّرا عن انشغالاته وهواجسه، مشيرا إلى ذاتٍ جديدة متلبسة بالمعاني الصوفية والوجدانية.
.
يندرجُ، إذن، ديوان « كلام آخر» ضمن السيرورة الشعرية لقصيدة أحمد لمسيّح، التي تتّسم بالتجدّد والتبدل، وهي تسعى لبناء شعريتها الخاصة. وهو إنْ كان، من جهة، يُعلنُ عنْ بلوغ قصيدة الزجل لمرفإ قصيدة النثر، ما يمثّل قطيعة بيّنة مع ما سبق للشاعرأن نشره من دواوين. فإنّه، من جهة أخرى، يؤكّد استمرارَ الشاعر في نسْج الأجواء والتّيمات التي حفلت بها دواوين : « ظل الروح» و»حال واحوال» و»ريحة لكلام» ، كتيمة الكتابة والموت وعلاقة الشاعربالذات وبالوجود.
يعزّزديوان» كلام آخر» ويخونُ، في ذات الآن، الاختياراتِ الفنيةَ التي درَج الشاعرُعلى استعمالها وتوظيفها منذ أن شرعَ صاحبُه في طرز ماء القصيدة الزجلية المغربية. أحد هذه الاختيارات الفنية يتجسّد في الالتحام العنواني الذي يتحقق عبرتكراركلمة مأخوذة من العنوان المركزي وجعلها ذات سريان وحضور في العناوين الفرعية. لنتذكر أن الشاعر في ديوانه « اشكون اطرز الما؟ «، كرّر دال «الماء» في القصائد الأربعة المشكلة للديوان: اشكون طرز الما ،حريق الما، الما خرج من الروح، الما...كانة. وفي ديوانه «ظل الروح» ، يتكرر دال «الروح» في العناوين الداخلية للديوان : حاضي الروح، حلاوة الروح، الروح المنحوتة. أما في ديوانه ماقبل الأخير « ريحة الكلام « ، فيحتفي الشاعر بدال «الكلام» مكررا إياه في المقاطع الثلاث المشكلة للقصيدة : هرب ليه الكلامْ، ضو الكلامْ، بدا يقول الكلام ْ.
يلتزم ديوان» كلام آخر» بتكرارجذر» موت « في كافة العناوين الفرعية،3 مرات في صيغة فعلية: نموت/ تنموت/مات، و3 مرات في صيغة اسمية مُعرّفة. فيما تغيبُ اللفظة عن العنوان المركزي، مايجعلنا أمام حالة جديدة، تتعالق فيها العناوينُ الفرعية فيما بينها فقط، دونَ أنْ تجدَ طريقها للعنوان المركزي، ما يحقّق للمتن الشعري مبدأ الالتحام ويسمحُ له بإقامة التواشجات الدلالية الداخلية، التي تصهرُ أجزاءه في منظومة واحدة. غير أنّ الشاعر( هذه المرة ) يُصرّ، على خيانة الوحدة التعالقية بين الداخل والخارج، التي رأينا تحقّقها في دواوينه السابقة، حيث يعطّل امتدادَ العنوان المركزي وسريانَه في العناوين الصغرى الداخلية، وقبولِها هي الأخرى فكرة الاندراج ضمنه،مما كان يسمحُ بخلق وحدة موضوعية بين الداخل والخارج ويعزّزالبنية الدلالية والرؤيوية المتحكمة في بنية الديوان.
رغم ذلك، تكشفُ إرادةُ الشاعر، وهو يكرّر جذر: موت، في العناوين الفرعية للديوان:
- نموت أنا مايموتْ حبيبي
- تنموتْ والزّين قبالتي
- إيلا مات كلنا نموتو
- الموت جربتها وفاتت عليا
- موتة وحدة كاينة
- الموت ولات تختار
عن رغبته في أنْ يقومَ العنوانُ الفرعي بوظيفة الإضاءة والتأطير بالنسبة لتشكّل المعنى. فهو بؤرة القصيدة ومركزها الدلالي، فيما هيَ تسعى لإكسابِ القارئ معرفةً بالنص، وتعيينِ الطريقِ نحْو امتلاك مجْهوله، الذي يختلطُ فيه الموت بالحياة، وحيث ميلادُ القصيدة لايتمّ سوى ببلوغ درجات الفناء:
ياَ الخارجْ مني
ياالهارب
ياجنبي
يالمشاركني، يانايَ، مُتْ، متْ أصاحبي مووووووت
مُتْ، يحيا الحرف، في حياتو نبقى، ارحَل أو نرحلْ
يمثّل الموتُ والكتابة المشتركَ الدلالي اللذي يحتفل به « كلام آخر»، الذي ليس سوى متتالية شعرية واحدة، تتوزّع إلى ست مقاطع شعرية، يضمّنها الشاعرُ قلقه الوجودي ويكشفُ فيها عن علاقته المتوترة بالكتابة، وعن رؤيته الوجودية للموت وللحياة. حياةُ بدأت بالشعر وبه تنتهي. يقول لمسيّح في الصفحة 94 من الديوان:
بْديتْ حياتي ف الكلامْ
بْ «الغول وهاينة»
ونقفل بْحورْها
ب ْ» الموت وحدة كاينة»
ليس «الغول وهاينة»، سوى إشارة لبداياتِ الخطو الشّعري لصديقنا أحمد لمسيّح ولقصيدته « الفرسان اختاروا الطريق»، التي افتتحَ بها باكورتَه الشعرية» رياح... التي ستأتي» الصادر سنة 1976 ، فيما « الموت وحدة كاينة» إحدى قصائد ديوان» كلام آخر». بين القصيدتين تاريخٌ من الأحلام المُجهضة والآلام المنكسرة... وَعدنا لمسيّح بالرياح مُحمّلةً بالماء والمطر... ووعدنا بالثلج وبفيوضاته. غير أنّه، في لحظة انكسار إنساني شفيف، سيُقرّ بحاجته إلى نفسه، وإلى رائحة الكلام الممزوج برائحة البحر،حيث ذاكرتُه ومنفاه وخلوته.
لا يبدُو ديوان « كلام آخر « مقطوعَ الصّلة عن الدواوين السابقة، خاصة: «ريحة لكلام»، و» اشكون اطرزالما ؟ «،حيثُ الاحتفاءُ بالقصيدة وبالكلام الطّري المدهش. فالشاعرلايمكنه إلاّ أن يكونَ مع اللغة التي تثيرُ الدّهشة و تبعثُ على الحيرة والتساؤل، تصدِمُ المعتادَ والمألوفَ. هكذا خاطبنا لمسيّح في « اشكون طرز الما؟»:
اللّي يزرع كلامُو وبذاتو يرويهْ
ماشي بْحال اللي يْشدْ كلامْ الناسْ ويعاودْ فيهْ
وفي» ريحة لكلام»، قال :
كلامك طايشْ
فطير ومَافيه ملحَةْ
بْلا تاويلْ
مُحال تلقى منْ يقبلْ عليهْ
(ديوان « ريحة الكلام»،ص 7)
في» كلام آخر»، يُجدّد الشاعِرُعشقَه للشعر في اللّحظة التي ينجحُ فيها في تأكيدِ اختلافه وقولِ مالايُمكنُ تنبّؤُه ولاتوقعه، ذلك مايسمحُ له بمعانقة «لالاتي» أو مولاتي القصيدة وملاقاتها على سطح الورقة، وإلاّ فإن هذه الأخيرة (الورقة)، متى اكتشفت غياب ماء الشعروانتفاء مِلح الكلام، تقومُ بطرد الشاعروتحرمه من شَرفِ الانتساب لدائرة القول الرفيع . يقول :
اجمعني،نتشتتْ
اسقيني نذبل
ماك مابان فيه خْيالْ
خليني نتخفى
ورا شي حريفات
نندس فْ الورقة
وايْلا شمّات فيّ كلام بايت تَدْحينِي
(ص74 من الديوان)
ورقة الشاعرلا حاجة لها بالكلام البائت، بل غايتها في الكلام المُبهر،القادمِ من أراضٍ بكرلم تطأها قدمٌ من قبل.
وحدَها القصيدة تستحقُّ أنْ تُسمّى «لا لة»: [«يا لالة القصيدة،ماني ساخي بيك «، ص 78 من الديوان]. أو كما في الصفحة 108 : [ «يالالة مولاتي القصيدة/ تمنيت نكون كسدة من الحروف].
ووحده الكلام يستحقّ أنْ يسمّى « سيدي» :[ «اطلبْ التسليم من سيدي لكلام»، ص 77 من الديوان].
يتبدّى الأثرُ الصّوفي واضحا في ديوان «كلام آخر». أثرٌ صارجَليّا في التجربة الشعرية لأحمد لمسيّح، لنقُل منذ ديوانه « اشكون اطرز الما؟»، ولو أنّ جذوره تعود لما قبل ذلك.
والظاهِرأنّ لجوءَ الشاعر إلى التجربة الصوفية للاغتراف من منابعها ومصادرها التخييلية الغنية، يعودُ لما وفّره التصوف من أجوبةً للقضايا والأسئلة المطروحة على ذاتِ الشاعر وقصيدته. ولنا أنْ نعترفَ أن التصوّفَ خلّص لمسيح من المرئي والمحسوس، ليصِله باللامرئي وبالمجرد، فعبْره انتقلت قصيدتُه إلى عوالم إشراقية باطنية تتجاوزالأشياءَ والمظاهرالخارجية التي أقامت فيها لفترة غير يسيرة من الزمن.
ولاغرابة في ذلك، فصِلةُ أحمد لمسيح بالتصوف تعود لطفولته وللقرية التي ولد بها، والتي يشيُراسمُها : زاوية سيدي اسماعيل، إلى كونِها تضمّ أضرحةً لأولياء ولمتصوفة، « ... جدّي لأبي اسمه سيدي محمد القاسمي، أتذكر منه لحيتَه البيضاء الطويلة وسبحَتَه الكبيرة حول عنقه، وجلبابَه وسلهامَه الأبيضين،كان من الفقراء
( الصوفيون الهواة). وكانت له عصبةُ تجتمع عنده للذكر،وما يقي عالقا في ذهني ، بعض الليالي التي ينجذبون فيها...وتعلو كلمة حي على زميلاتها،بين الإنارة والعتمة ...كانت لهم طقوسٌ يشرعون فيها بعد زردة الكسكس و الصلاة ..هذا الجدّ له أبناء عمومة من قبيلة القواسم المشهورة بتربية الصقور، ولعبة الفروسية، ويقال عنهم «الشرفا القواسم قزابين الطيور في السما ...» ، وكانت لهم أمّ اسمُها لالة مينة الطالبة، فقيهة، كانت تلبسُ السلهامَ وتجالسُ الفقهاء وتناظرُ بعضهم ..وهما معا، من سلالة سيدي اسماعيل بوسجدة الذي تتسمّى القرية باسمه،كان صاحب زاوية، وضريحه الآن محاط برفقائه مثل بولقنادل، وسيدي أجمد المجاهد...أما جدّي لأمي فاسمه الرداد، وينحدرُ من العائلة التي كانت من أوائل المقيمين بالمدشر، الذين انحدرتْ منهم سلالاتٌ كونت دوار أولاد بوشعيب ...الذي تستقبلك في مدخله مقبرةُُ بها ضريحُ امرأة، تُدعَى لالة زهرة البوهالية « ( أحمد لمسيّح، في البحر ذاكرتي،ص،25).
يكشفُ هذا المقطع عن الصّلة الروحية التي ربطتْ وعْيَ الشاعر خِلال طفولته بعالم المتصوفة، حيث الجَدُّ ينظّمُ حلقاتِ الذّكر للمريدين في قرية جمعت بين جنباتها أكثرَمن ضريح لعدد من أولياء الله من الرجال والنساء .
لذلك، نفهمُ عِناية الشاعر بالتصوّف وبرجالاته وسعيَه للتماهي مع رؤاهم ومواقفِهم ولغتِهم الشعرية العميقة التي تتميّز بالاستعارات والانزياحات والشطحات العجيبة.
ولأنّني ،أنا الأخر، ابنُ زاوية. فقد أتيح لي أن أستمعَ لأناشيد الذكرالصوفي، الصادرة عن النساء والرجال على حدّ سواء. وأعرف مدى التأثيرالباهرالذي مارسته على ذاكرة الشاعرأحمد لمسيّح :
سير الزاوية ماني ساخي بيك
غير إيْلا سخاك الزمان عليا
ماحد ولد سيدي يتسارا فيك
والموت مايطوفشي بيا
هكذا، وصلتني هذه القطعة،التي تغنّت بالزاوية مكانا للخلوة والذكر والحضرة.
في « كلام أخر» نقرأ في الصفحة 78 :
يالالة القصيدة
ماني ساخي بيكْ
سخاّك الزمان عليأ
را الموت حارة زُغبية
شْحال جربتها
وفاتت فيّ
يمتصّ الشاعرأحمد لمسيّح المقطع الشعبي» سير ألزاوية...»، ويقومُ بمزْجه بالتعبير الشّعري الخاص، وذلك عبر إزالة بعض دوالِه والاقتصارعلى جزءٍ منها فقط وإرفادها بعناصرجديدة،مايمنحُ للنصّ الوليد معنىً ودلالةً جديدة، تنسجمُ والتشكيل الدلالي والجمالي للقصيدة.
تتيحُ لي هذه الإشارة،إثارةَ الانتباه للتفاعل الذي أبْدته قصائدُ الديوان مع مقطوعات شعرية من غناء العيطة أومع سواها من المتون الشعبية الأخرى : نموت أنا مايموت حبيبي/ أنا تنموت والزين قبالتي/ إيلا مات كلنا نموتو/ سير ألزاوية ما انا ساخي بيك / الموت وحدة كاينة/ لقيت الموت ولات تختار.
يكشِفُ التناصُ المذكورعلى مُستويين: الأوّل دلالي من خِلال التّأكيد على تيمة الموت، ما يُعزّز رُؤية الشاعرالوجودية لذاتِه في مُواجهتها لعوالم الغيب والطبيعة. والثاني بنائي : فالتناص مع مُدونة الأدب الشعبي هواستلهامٌ للمخزون الدلالي لهذا الأدب وتوظيفٌ لطاقاته المجازية التي تحملُها نصوصه بهدفِ مُساعدتها للنص الوليد على أداءِِ مُهمّته ورسالته المُتمثلة في تدْعيم وإغناء رُؤى الشّاعر وتوجُّهاته ومواقفه الوجدانية والوجودية.
في « كلام آخر»، يتحرّرأحمد لمسيّح من التجليات التي انبنى عليها مشروعه الشعري المُعتمد، في بعض وجوهه، على البناء الإيقاعي، ليتّجه نحو بناء «شعرية» أخرى، تمتلك إيقاعَها الخاص،الذي يعلنُ الشاعرعنه في الصفحة 78 من الديوان، يقول:
لالة الحرّة أنت قصيدتي
سايبة...صايلة...علاّمة السربة ،
إيلا قريتيني بعينيك مغمضة لاش الميزان؟
تحسم هذه الأسطر الثلاثة في الاختيارات الشعرية والفنية التي اعتمدها الشاعر في ديوان» كلام آخر»:الانتصار للكتابي( العين)، بدل الشفوي ( الميزان/ الأذن). تكتسبُ قصائد الديوان صفة القصائد المرئية، ويتعزّز ذلك بوفرة نقط الحذف التي تتكرّرفي أكثر من موضع من الديوان، يلوذ بها الشاعرعندما يخذله الكلام، الذي يتراجعُ مفسحا للبياضِ فراغَ الصفحة،ما يمنحُ للقصيدة إيحاءات ودلالات مفتوحة.
الما انتحَر
اصلبْ راسُو.....
........اتّبعتْ.................
.............كان الصّليب نوّرة
( من الديوان، ص 14 )
يتناوبُ البياض والسّوادُ في « كلام آخر»، المنطوقُ والمسكوتُ عنه، الحياة والموت، الظاهرُ والباطن، مايجعلُنا جميعا ننتمي إلى لحظة التناقض والمُفارق:
في الموت ميلاد
في الزيادة خسران
في الظهور خفا
كاين وماكاين
(من الديوان، ص 37 )
تلك اللحظة المبنية على التناقض والاختلاف، هي ما يجعلُ الدّيوان الجديد لصديقي الشاعر أحمد لمسيّح الصادر ضمن منشورات بيت الشعر في المغرب : « كلام آخر».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.