ما يهمنا نحن في هذه «الحلقات الرمضانية» هو إلقاء بعض الضوء على «حياة محمد قبل النبوة»، وتحديدا على الفترة الممتدة ما بين زواجه من خديجة بنت خويلد ونزول الوحي؛ وهي مرحلة «مظلمة» تستغرق 15 سنة وتدخل بالمستطلع، حسب ما يراه الباحث سعيد السراج، «ظلاماً دامساً إلى حيث لايدري كيف يسير وإلى أين يمضي وماذا يلاقي، فهو لا يحس إلا بخشونة الريب إذا مد يده لامساً، ولا يسمع إلا زمجرة الشكوك إذا مد عنقه مصغياً». والسبب في ذلك أن محمدا لم يكن، عموما، قبل النبوة وقبل أن يشتهر أمره «إلا واحداً من قومه وعشيرته، فلا يهم الناس أمره ولا يعنيهم نقل أخباره ولا التحدث بها في بيوتهم ونواديهم، يؤكد معروف الرصافي، في كتابه «الشخصية المحمدية»، أن محمداً كان في حالة تمشير ونشاط في الجماع مستمرة. فهذه الحالة هي التي حببت إليه النساء، وهي التي خرجت به عن حد الاعتدال في الجماع (...) أما هذه الحالة المستمرة فيه، أعني حالة تمشيره ونشاطه للجماع، فهي على ما نرى ذات اتصال بحالته العصبية (...) ومعنى كونها ذات اتصال بها أنها ناشئة منها ومسببة عنها. وذلك أن أعصاب محمد كانت في تهيج مستمر تزيد تهيجاً على تهيج بأقل مؤثر يؤثر فيه وأدنى حادث يحدث لها حتى كانت تعتريه تلك النوبة التي كانت تأخذه عند تهيجها (...) منذ الصغر قبل النبوة وقبل أن يوحى إليه». وقال إن «تمشيره ونشاطه للجماع لم يكن إلا عرضاً من أعراض ذلك التهيج المستمر في أعصابه، علمنا ما في كثرة جماعه من سر غامض. إذ لاشك أن الجماع يكون خير مسكن لأعصابه، وهو في تلك الحالة. فكان كلما اشتدت حالته العصيبة تهيجاً يلجأ إلى الجماع تسكيناً لأعصابه من تهيجها». إذا كان الأمر كذلك، لماذا اكتفى محمد بخديجة بنت خويلد زوجة وحيدة طيلة 15 سنة؟ وهل فعلا إكثاره من النساء ناتج عن تهيج عصبي أو عن استيهام جنسي رافقه من الصبا؟ لنتأمل هذه الرواية: «ذكر هشام بن الكلبي في الأنساب عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كانت ضباعة القشيرية تحت هودة بن علي الجعفي فمات فورثته من ماله فخطبها ابن عم لها وخطبها عبد الله بن جدعان فرغب أبوها في المال فزوجها من ابن جدعان، ولما حملت إليه تبعها ابن عمها فقال: يا ضباعة، الرجال البخر أحب إليك أم الرجال الذين يطعنون السور؟ قالت: لا، بل الرجال الذين يطعنون السور، فقدمت على عبد الله بن جدعان فأقامت عنده ورغب فيها هشام بن المغيرة وكان من رجال قريش. فقال لضباعة: أرضيت لجمالك وهيئتك بهذا الشيخ اللئيم؟ سليه الطلاق حتى أتزوجك، فسألت ابن جدعان الطلاق فقال: قد بلغني أن هشاماً قد رغب فيك ولست مطلقاً حتى تحلفي لي أنك إن تزوجت أن تنحري مائة ناقة سود الحدق بين إساف ونائلة، وأن تغزلي خيطاً يمد بين أخشبي مكة، وأن تطوفي بالبيت عريانة، فقالت: دعني أنظر في أمري، فتركها فأتاها هشام فأخبرته، فقال: أما نحر مائة ناقة فهو أهون عليّ من ناقة أنحرها عنك، وأما الغزل فأنا آمر نساء بني المغيرة يغزلن لك، وأما طوافك بالبيت عريانة فأنا أسأل قريشاً أن يخلو لك البيت ساعة، فسليه الطلاق، فسألته فطلقها وحلفت له، فتزوجها هشام فولدت له (سلمة) فكان من خيار المسلمين ووفى لها هشام بما قال. قال ابن عباس: فأخبرني المطلب بن أبي وداعة السهمي وكان لدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لما أخلت قريش لضباعة البيت خرجت أنا ومحمد ونحن غلامان فاستصغرونا فلم نُمنع، فنظرنا إليها لما جاءت، فجعلت تخلع ثوباً ثوباً وهي تقول: «اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله«، حتى نزعت ثيابها ثم نشرت شعرها فغطى بطنها وظهرها حتى صار في خلخالها، فما استبان من جسدها شيء، وأقبلت تطوف وهي تقول هذا الشعر، فلما مات هشام بن المغيرة وأسلمت هي وهاجرت خطبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ابنها سلمة، فقال: يا رسول الله ما عنك مدفع أفأستأمرها؟ قال: نعم، فأتاها فقالت: أنا لله أفي رسول الله تستأمرني؟ أنا أسعى لأن أحشر في أزواجه، ارجع إليه فقل له: نعم قبل أن يبدو له، فرجع سلمة فقال له، فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقل شيئاً. وكان قد قيل له بعد أن ولى سلمة: إن ضباعة ليست كما عهدت، قد كثرت غضون وجهها، وسقطت أسنانها من فمها، وذكر ابن سعد بعض هذا في ترجمتها عن هشام بن الكلبي وعنه بهذا السند». إن المثير في هذه الرواية، والذي يمكنه أن يصنع «مقدمة استيهام جنسي» عاشه النبي في صباه - طبعا إذا كانت الرواية صحيحة- هو ما رواه «المطلب بن أبي وداعة السهمي» الذي كان للنبي رفيق صبا. إذ السؤال هو: هل يمكن لغلام عاين عن كثب مشهدا لامرأة جميلة جدا وهي تخلع عنها ثوباً ثوباً وهي مستغرقة في جسدها أن ينسى هذا الفعل «الستريبتيزي» الذي كان ساريا في مجتمع قبل الإسلام؟ وهل يمكن ل«فعل التعري الأنثوي» إلا أن يترسخ كتجربة استثنائية صعبة من غير الممكن عدم استعادتها والاحتشاد بها؟ إن طرح هذا السؤال لا ينفي أنه من الصعب الاطمئنان إلى المعطى النصي الذي تقدمه الرواية التي ننقلها، نظرا لعدم ارتقائها إلى مستوى «الشهادة التاريخية»، إذ لا يمكن التغاضي عن الفجوة الزمانيّة الهائلة التي تفصل بين زمن وقوع الأحداث (أو ما يفترض أنّها أحداث فعلاً!) وزمن تدوينها. لنعود الآن إلى معروف الرصافي الذي يقول: «إن حالته العصبية كانت موجودة فيه قبل النبوة، بل منذ الصغر، وليس هذا مما أقوله أنا أو أدعيه، بل ذكره الرواة وعلماء السير (...) أما أن إكثاره من الجماع لم يكن إلا في المدينة، فلأن أسباب الركثار منه لم تتهيأ له إلا في المدينة، حيث كثرت أزواجه وسراريه، وأما في مكة، فكانت له دورتان إحداهما قبل النبوة وقبل أن يتزوج خديجة، والأخرى بعد أن تزوج خديجة وبعد النبوة. فأما في الدورة الأولى فكانت حالته العصبية في أشد ما تكون من التهيج، ولذا كانت تقع له عملية شق الصدر في تلك الدورة، حتى إنها وقعت له ثلاث أو أربع مرات كما مر. وهو في هذه الدورة، لم يكن يعلم أن الجماع من المسكنات لحالته العصبية، لأنه لم يتزوج ولم يجرب ذلك فعلا، فكان يتحمل أعباء تلك الحالة بصبر واستسلام إلى الأقدار. وأما في الدورة الثانية أي بعد تزوجه خديجة، فما يدرك لعله كان يكثر الجماع معها. نعم! إن كثرة جماعه في مكة لم تكن مثل كثرة جماعه في المدينة، إذ لا يمكن عادة أن يجامع امرأة واحدة بقدر ما يجامع تسع نسوة. ولكنه على كل حال، كان يكثر الجماع مع خديجة. ولذا نراه بعد تزوجه إياها قد خفت وطأة حالته العصبية بعض الشيء، فلم يعد كما في السابق يرى في نوبته العصبية تلك العملية المدهشة التي هي عملية شق الصدر».