في كتابه الصادر في بحْر السنة الجارية، "الإخْوان المسلمون، تحقيق حوْل آخر إيديولوجيا شمولية"، للباحث والصّحافي الفرنسي ميخائيل برازان. الكتاب هو ثمرة تجوال طويل للمؤلّف في شتى أنحاء العالم العربي مشرقا ومغربا، حيث التقى قادة الإخوان المسلمين في كلّ مكان، وحاورهم بعد أن استقبلوه مطوّلا. وعن هذه الحوارات والاستقبالات، نتج هذا الكتاب الهام. منذ بضعة أشهر فقط، كانوا يقودون أكبر بلد عربي: مصر. ولكنهم الآن أصبحوا مطاردين في كل مكان، أو قابعين في السجون، أو نازلين تحت الأرْض بعد أنْ عادوا إلى حياة السرية التي جرّبوها طويلا في الماضي. فمن الإخوان المسلمون يا تُرى؟ إنهم جماعات منتشرة في شتى أنحاء العالم العربي، بلْ وحتى في الدياسبورا الأوروبية والأمريكية. إنهم مشكَّلون على هيئة روابط أو أحزاب سياسية أو «جمعيات خيرية»، بين قوسين. ولكنهم مشتبه فيهم دائما بأن لهم علاقة وثيقة بالحركات التكفيرية والجهادية. بالطبع، هم ينكرون ذلك ويقسمون بأغلظ الأيمان بأنهم معتدلون لا علاقة لهم بالتطرّف والمتطرفين. ولكن، من يصدقهم؟ على أي حال، فإن الباحثين مختلفون في شأنهم. فالبعض يقول بأنهم إسلاميون معتدلون، والبعض الآخر يقول بأنهم ثيوقراطيون مقنّعون. وعلى أي حال، فإنهم يحيّرون بقدر ما يقلِقون. حين غادر راشد الغنوشي تونس، لمْ يتوجّه مباشرة إلى لندن، بلْ أراد أن يبقى قوق أرض الخلافة، في بلد إسلاميّ. لذلك، حين استجاب لدعوة "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، حزب الإخوان المسلمين بالجزائر، سوف يستقرّ بالجزائر سنة 1989. كانت جبهة الإنقاذ، أحد الأجنحة الأكثر تشدّدا وراديكالية من بين المنظمات الإخوانية خارج مصر، تستعدّ للفوز بالانتخابات البلدية لسنة 1990. كان الإخوان المسلمون في الجزائر ينهجون استراتيجية تختلف عن استراتيجية القوّة والعنف، هذه الاستراتيجية التي أبانتْ، بشكل أو بآخر، عن فشلها في مناطق متعددة من العالم. ذلك لأنّ الجزائر، وخلافا للجارة تونس، كانت تعتبر نفسها دائما مرتبطة بالإسلام. وبمباركة من المجموعة الدولية، نجح الإخوان المسلمون في هذا البلد في تأسيس حزب سياسيّ وتقديم مرشحين للانتخابات البلدية. وهي الانتخابات التي فازوا بها خلا شهر مارس من سنة 1990. وسط الهيمنة السياسية، التي فرضها نظام الحكم الدكتاتوري القائم منذ استقلال الجزائر سنة 1962، كان الإسلاميون يمثلون البديل الوحيد الممكن. كان حزب التحرير الوطني الذي يحكم البلاد من حديد منذ ما يربو على 25 سنة متهما من طرف جميع شرائح المجتمع: تفاقم التضخّم، غرق الجزائرين في الديون، ارتفاع أسعار المواد الغذائية، فضلا عن ارتفاع نسبة البطالة في صفوف الشباب خاصّة. في سنة 1988، خرجت إلى الشارع مظاهرات حاشدة للتنديد بالنظام العسكري الحاكم والاحتجاج ضدّه. وكانت الولاياتالمتحدةالأمريكية، بعد سقوط جدار برلين، قد عزلت عمليّا حكّام الجزائر الذين كانوا يتخذون قرارات سياسية ضدّ مجرى ما يعيشه العالَم، ويتبنّون اختيارات اقتصادية كارثيّة. لذلك، وفي هذا السياق، استسلم الحزب الحاكم للضغوط الداخلية والخارجية، وعلى رأسها الضغوط الأمريكية على وجه الخصوص، وقرّر تنظيم أوّل انتخابات تشريعية في البلاد، حرّة وتعددية، منذ استقلال الجزائر. كان من المنتظر أن تجري هذه الانتخابات في نهاية 1991. وعلى الرغم من رهان جبهة الإنقاذ على الفوز بهذه الانتخابات، إلا أنها كانت تدرط جيدا خطر الإسلاميين القادم. وهو الخطر الذي تجسد عمليّا في فوزهم في الانتخابات البلدية، بما فيها بلديات الجزائر العاصمة. ومنْ جانِبِهم، فإنّ الإخوان المسلمين لم يكونوا يشكّون لحظة واحدة بفوزهم. خاضت الجبهة الإسْلامية للإنقاذ هذه الانتخابات، وحققت فوزراً كبيراً في 856 بلدية. وبعد هذا الفوز بدأ الحزب الحاكم في الجزائر، المتمثّل في جبهة التحرير الوطنيّ، يشعر بخَطَر الجبْهة على وجوده في الحكم. وبدأت حكومة الجزائر تضع العراقيل في طريق تقدم الجبهة، وأصدرت نظاماً جديداً للانتخابات. على إثر ذلك قامت مظاهراتٌ كبيرة تطالب بالإصلاح، وهي التي انتهتْ بمُصادماتٍ دامية بعد أن قابلتها بإطلاق النار، واعتقل على إثرها عباسي مدني ونائبه بلحاج بتهمة التآمر على أمْن الدولة. وعلى الرغم من اعتقال زعماء الجبهة، فقدْ خاضت الجبهة الانتخابات التشريعية لاختيار مجلس الشعب في الجزائر في 26 دجنبر 1991، وحصلت على 188 مقعداً من أصل 228 في المرحلة الأولى، بينما لم يحصل الحزب الحاكم إلا على 16 مقعداً فقط. تعتقد جبهة الإنقاذ أنّ الإسلام دين صالح لكل زمان ومكان، ويشمل جميع مجالات الحياة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها. وتلتقي الجبهة مع حركة الإخوان المسلمين في بعض هذه المبادئ العامة الكبرى، حيث تؤكد الجبهة، مثلا، أنّ إطار حركتها ودعوتها هو الكتاب والسنة، في مجال العقيدة والتشريع والحكم. لذا فإنّ نموذج فكرها هو التيار السلفي في التاريخ الإسلامي. وكانت قدْ قدمت الجبْهة مذكرة إلى رئيس الجزائر في 7 مارس 1989 تتضمن مبادئها وبرنامجها السياسيّ والاجتماعيّ، وفي مقدّمته: ضرورة التزام رئيس الدولة بتطبيق الشريعة الإسلامية طالما أنه يحكم شعباً مسلماً، استقلال القضاء بغرض الحسبة، إصلاح النظام التعليمي، حماية كرامة المرْأة الجزائرية وحقوقها في البيت ومراكز العمل، تحديد مجالات للإصلاح، ووضع جدول زمني لذلك. كما وقفت الجبْهة في وجه مصالح الغرب عامة، وفرنسا على وجه الخصوص. من هنا كان فوز الجبْهة في المجالس التشريعية خطراً حقيقيًّا، في نظر الغرب على هذه المصالح، وقد صرح أحمد غزالي، عندما وصلته نتائج الاقتراع "إن الشعب صوّت ضد الديمقراطية". فكان من نتيجة ذلك إلغاء الانتخابات لأنهم يريدون ديمقراطية بدون إسلام، وكذلك تدخل الجيش وفرض الارتداد عن نهج تسليم السلطة سلميًّا للطرف الفائز في الانتخابات وتشكيل جهاز جديد للحكم وتشكيل سلطة مدعومة عسكريًّا، وبدأ اعتقال عناصر الجبهة القيادية والشبابية وإيداعهم في سجون نائية في قلب الصحراء حتى يتوقف المد الإسلامي. وأصدرت المحكمة الإدارية قراراً بحل الجبهة وسحب البساط من تحت أقدامها حتى يمكن اتخاذ كافة الإجراءات لمصادرة نشاطها، ولكن قادة الجبهة يعلنون أن الدولة الإسلامية في الجزائر قائمة لا محالة، وقد استقال الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد بعد الفوز الساحق للجبْهة، وتولى الحكم الرئيس محمد بوضياف الذي اغتيل ولا زالت الأحداث تتوالى حتى تولى الحكم عبد العزيز بوتفليقة الذي هدأت الأمور في عهده.