لئن كانت»السينما في العمق،إعلاء من شأن الفرد في تعدديته، وقبل كل شيء،هي سبيل قويم لامتصاص تعصبه وشوفينيته» ،فهي في منظورنا اكتشاف وترف وتحد لواقع مزر. بعد زوال كل يوم أربعاء، يعلق «خوخة» أفيشات الفيلمين اللذين ستعرضهما سينما شريف الأسبوع المقبل. يعلقهما على حيوط «»سوسيكا»»،ويشهر بين الناس أنهما فيلمان من الجودة الرفيعة.. كل الأفلام التي تمر ب»سينما شريف» لاتناقش حسب خوخة، هذا الرجل الذي يبدوغريب الأطوار،لذلك تختلف مشاعرنا وتتنوع إزاءه. كل أولاد الدرب يعرفون «خوخة»، فلادخول إلى قاعة السينما دون أن تمد اليه ريالين... العملية الحسابية سهلة جدا. ميزانية «سينما شريف» ثلاثون ريالا، ثمانية وعشرون للتذكرة، وجوج دريال للبطل خوخة «وإلا بقى فدراكم». شباك صغير يجلس من ورائه مسن يبيع التذاكر، هناك السفلي، وهناك العلوي أو البالكون وثمنه أربعة وثلاثون ريالا، ولا غلا على مسكين، آه أسي، نحن مساكين... ولا نتدبر المبلغ إلا بالريق الناشف وستة وستين كشيفة،فلا مدخول إلا ما جاد به الوالدان. كانت السينما تشغل تفكيرنا،فهي الفرجة والمتعة بل والمتنفس.والحقيقة ان ثمة افلاما تركت اثرا بليغا في نفوسنا،ولا يمكن أن تبلى مع الزمن،ففي الافلام الهندية،اشتهر بيننا ا شروخان،شاشي ،راج كابور،ديفانا..كانت هذه النوعية من الافلام تشبع نهمنا من الرومانسية والاداء العجيب.الى جانبها طبعا هناك الافلام الصينية، ويمثلها الفنان بروس لي بأفلام كثيرة على رأسها بيغ بوص.وهناك الافلام اليابانية وتشتهر عندنا بأفلام العصابة،وكذا الساموراي.وهناك الافلام الايطالية بما عرفت به بيننا بالحركية والتشويق، والافلام الامريكية حيث أنطوني كوين وافلام الويسترن،وكلنا يتذكر شارل برونزأو كما نسميه «شربراسو».ولاننسى ?طبعا- الافلام الفرنسية،والتي كان يثير اعجابنا منها لوي ديفينيس والان دولان وماكس ليندر الذي اثر في شارلي شابلن ممثل الافلام الصامتة ومن أجملها» لي الازمنة المعاصرة» .والافلام المصرية الشهيرة كتلك التي مثل فيها نجوم على شاكلة محمودالمليجي وفريد شوقي وبليغ حمدي وليلى علوي..كنا نندمج،نتماهى،ننسجم لحد الصراخ تنبيها للبطل من ان يسقط في فخ نصبته له العصابة وهو يهم بإنقاذ محبوبته.كنا نصفق عندما يحمل البطل البطلة في آخر عمر الفيلم بين يديه .كنا نلتزم الصمت حين تتلاقى الشفاه وتكون القبلة حارة،نارية،او دافئة،كما في فيلم «أبي فوق الشجرة من بطولة عبد الحليم حفيظ وعماد حمدي ونادية لطفي وميرفت أمين. كانت دواخلنا تشتعل .كان المنظر يحلق بتفكيرنا نحو فتيات الدرب الجميلات.كانت هناك صور وتصورات.لقد كان تأثير هذه الافلام قويا علينا.كنا نحكي عنها لمن نحب بتفصيل ممل،لانتعب من تكرارها لمن فاته مشاهدتها أو عجز عن التفرج عليها،بل أكثر من ذلك قد نتقمص-إلى حين- دور إحدى شخصياتها في الواقع المعيش. لم يكن هينا على اطفال « ربنا خلقتنا واليك نعود» توفير ما يكفي من الريالات لاقتناء التذكرة لمشاهدة افلام خالدة مؤثرة يشارك فيها كبار بل عظام. لم نكن نستوعب الأفلام جميعها، ومع ذلك نتظاهر بالفهم لتبرير الأموال التي سرقت من عرق جبين الآباء... ثم ماذا عسانا نفهم في فيلم تم بتر ربعه على الأقل.... فيلمان في فترة زمنية بين الثانية والخامسة مساء .. والعور.. والعور.. الذكرى تختزل فقط بعض المشاهد الحية وبعض المبارزات وبعض القبلات تهتز القاعة،يسقط أسفلها على أعلاها كلما بتر الأعور (وهو الشخص الذي يتحكم في بث الفيلم) قبلة من شأنها أن تطفئ نارا موقدة في أعماق أعماقنا. .. لعور لا تهمه مكبوتاتنا بقدر ما يهم أن نعود غدا أو بعد غد عسى القبلة تكون في موعدها وفي لقطتها.. ارتبطنا وجدانيا ب»سينما شريف» التي كنا نجد فيها إمتاعاومؤانسة .والواقع أنه لا شيئ من هذا القبيل ولا هم يحزنون... الحيوط مبللة بالعرق، والكراسي نصفها مكسر إلى أجل غير مسمى . قاعة ممنوعة كليا على العنصر النسوي. والدخول إليها يقتضي سنطيحة قوية أوتفننا في المقاتلة. وليس كل من هب ودب يمكنه الحصول على كرسي مناسب داخل قاعة بمراحيض غير صالحة. قليلون هم الذين يهتمون بالفيلم، والباقون يتناكرون بالكلام النابي والجدالات التافهة. يخبطون الكراسي بالأرجل وتخرج حناجرهم أنكر الاصوات تعبيرا على سخطهم وعدوانيتهم. حين نغادر القاعة، نصطف أمام دكان «الزاعبلي» لاقتناء الطون والحرور بستة ريالات لعلنا نقنع بطوننا قبل العودة إلى البيت. وحين يعلم الأصدقاء بأنك كنت تشاهد فيلما في السينما، يكون اول سؤال: واش فيه المضاربة؟ »واش فيه البوسان؟ واش الولد غيموت فالآخر؟ والأجوبة عن هاته الأسئلة هي التي ستحدد ما إن كانوا هم الآخرون سيزورون القاعة المظلمة أم لا، وإن قرروا ذلك، فعليهم ألف حيلة وحيلة لتدبير المبلغ والحصول على ثلاثين ريالا بالتمام والكمال كي لا يغضبوا صاحبنا العزيز «خوخة». وتظل «سينما شريف»، مع ذلك عريقة،لها كثير من الفضل في توجيه البعض الى مجال عرف بالابداع والتأثير واللذة والمتعة والفائدة،إما للتمثيل وإما للنقد وإما.. على الاقل أكسبتنا ذائقة فنية. ان»سينما شريف» عرضت افلاما خالدة مؤثرة شارك فيها كبار بل عظام لا يمكن إلا أن نستلذ بالحديث عنهم، كما بالتالي لايمكن إلا أن ننحني لهم ولها احتراما وتقديرا على خدمات جلى للفن السابع.