إن أدنى تمعن في خريطة الأحداث لمنطقتنا وما حولها، يشير بما ليس فيه مجال للشك، إلى أن الأمور السياسية والأمنية بل والمرتكزات الوجودية لقوى المنطقة (دولا وما دونها)، دخلت نفقا من التعقيد والتشابك إلى حد يصعب معه تخليص الأجزاء من بعضها، من دون أن تأخذ جزءا مما التصقت به، وأن جميع خطوط الصراع لا يمكنها تحقيق النصر المنفرد، ولا تحمل كلفة المعركة منفردة، وأن تأخير خيار سلام الشجعان أو مائدة «الكل يخسر نسبيا» يعني أن نزيف الدماء مستمر بوتيرة مضطردة. منذ قرن أو أكثر، يعد العامل الخارجي العنصر الرئيس والأساس في موازنتي الإقلاق والاستقرار لمنطقتنا، وهي معادلة قد تكون متنافية للوهلة الأولى، أو غير معقولة في الحسابات المنطقية، فكيف يكون مصدر القلق هو نفسه مصدر الاستقرار، الأمر الذي يجبر التحليل التقليدي أن يبتعد عن الإقرار بهذه الحالة، ما ينتج غيابا عن الحقيقة. فالصحيح عندنا أن الثابت هو الدور المحوري والمصيري للعامل الخارجي بكل تنوعاته بالنسبة للترتيبات الكلية والإستراتيجية لأمن المنطقة، وأن لعبة «الإقلاق والتهدئة» ممكنة في إطار حساب المصالح من وجهة نظر الطرف المستفيد (بغض النظر عن مصالح الشركاء المكرهين قهرا على الشراكة)، ما يعني عدم وجود مؤشرات منتظمة «لجزر ومد» الفعل الخارجي «حربا أو سلاما». سلسلة «لا ممكنات» ينبغي أن تؤخذ بنظر الاعتبار، بهدف أن تكتمل الصورة تتمثل في: لا يمكن حل القضية السورية من خلال الخيار العسكري. ولا يمكن قيام كيان كردي مستقل يحمل القدرة على البقاء والاستمرار. ولا يمكن للسعودية أن تقيم ترتيبات سياسية وإستراتيجية في المنطقة رغم أنف إيران. ولا يمكن لإيران أن تشكل صورة الخريطة بالاعتماد على دائرة الأحلاف الضيقة. ولا يمكن لإسرائيل أن تمحو مصادر إزعاجها «حزب الله ومن هم على خطه» من الوجود. ولا يمكن لاي دولة مهما كانت علاقتها مع «قوى الإرهاب» أن تنام قريرة العين من دون أن يقلقها أرق الأمن. ولا يمكن لأمريكا أن تجمع المتناقضات بيد واحدة، ولن تبقي على الهيبة من دون ان تستخدم الرهبة، ولا يمكنها تجاوز الضد الروسي الصيني الإيراني في منطقتنا. ولا يمكن لمصر أن تسلك طريق أرباح بلا ضرائب فالعمل في المناجم يسود الوجوه ويخنق الأنفاس. ولا يمكن لحلف تركيا - قطر - «الإخوان» - أطراف تحت الطاولة، أن يصل إلى ما خطط له من خريطة أهداف، أو يعني ذلك نهايته واضمحلاله. لا يمكن الحديث عن أمن محلي لأي دولة في المنطقة ولا يستطيع أي طرف النأي بنفسه عما يدور حوله، أو يضمن استقراره من دون مساعدة الشركاء. ولا يمكن إخفاء صفقات الحكام والسلاطين على جمهورهم لوقت طويل. لا يمكن المراهنة في الإنجازات المصيرية والحلول الكبرى على «قائد ضرورة» مهما كانت أهمية الأفراد في منطقتنا، بل ستكون المقاربات الذكية والتوافقات الجماعية هي المخلص الوحيد للتغيرات الجوهرية. ولا يمكن للقومية الناصرية أو المطورة، ولا الشيوعية اللينينية أو المحسنة، ولا الرأسمالية التقليدية أو المحدثة أن تكون المعادل الآيديولوجي للفكر التكفيري المتغطي بلحاف السلفية الجهادية الملفقة. لا يمكن الاقتصار على وسائل القوى الصلبة في مواجهة خطر الإرهاب واجتثاث عروقه، كما لن تكون القوى الناعمة لوحدها كافية في مواجهة خطر التوحش. ثلاثية «التعقيد والتشابك» و«حتمية العامل الخارجي» و«سلسلة اللاممكنات»، تفرض صورا محددة من الخيارات المتصورة والممكنة لما قبل الانفجار الكبير. فلن يتاح لنا المضي بعيدا في الخيالات الوردية إلى فضاءات خارج مثلث الأزمة ضيق المساحة. يوجد خياران متصوران لحالة ما قبل وقوع الانفجار: الأول، وهو الذي يستمرئه الكثير من الأطراف برغم عدم قدرته على المعالجة الكاملة، ويتمثل في «حل المسكنات»، ما يعني سعي الأطراف إلى إبعاد وقوع الانفجار الكبير من خلال معالجات جزئية مقطعية، وعبر إجراءات انفرادية مراهنة على الوقت في الوصول إلى إنجازات عالية الأثر واطئة الكلفة، كما يجري في سلوك الأطراف المعنية مع الأزمات العراقية والسورية واللبنانية واليمنية وغيرها من الملفات الأخرى. يعاني هذا الخيار من ثلاثة تحديات رئيسة: الأول يتمثل في عدم قدرته على إيجاد حلول كلية ونهائية، ما يعني الاستنزاف المستمر والتورط الدائم في حلقة الأزمة، والثاني يتمثل في عدم وجود ضمانات لبقاء إمكانية خيار «حل المسكناتش، فهو حل محكوم بوتيرة الصراع ومؤشرات الصراع والأزمة، تضيق الفرص فيه إلى أدنى حد، والتحدي الثالث والأخطر انه لا يقدم ضمانات يمكن الاستئناس بها في قدرته على تأجيل أو منع وقوع الانفجار الكبير، لمدة مشخصة وفي ساحات واضحة ومعينة، يضاف إلى ذلك كله تعرضه لاهتزازات الإخفاق كثيرا، حتى على مستوى نتائج المقاربات الجزئية وحجم الكلفة الباهظة المستمرة له. أما الخيار الثاني فهو «حل النتائج الكبيرة والتسويات المستقرة»، فتواجهه أيضا تحديات أكبر من الخيار الأول تتمثل في: صعوبة تحقيق إرادة جامعة جدية من كل الأطراف المعنية به، وحجم التنازلات التي يفترض أن تروض كل الأطراف أنفسها عليه، وتعقيد الخطوات التي ينبغي أخذها لغرض خلق توافق إقليمي ودولي حوله لضمان نجاحه، وسعة مساحة وتضخم أحجام المستفيدين من عدم وقوعه ورغبتهم في فشله وقدرتهم الدائمة على إعاقته. يتحقق الخيار الثاني «حل النتائج الكبيرة والتسويات المستقرة» من خلال محورين: الأول محور إقليمي يتكون من: إيران والسعودية وتركيا ومصر. أما المحور الثاني فيتكون من: أمريكا وبريطانيا ورؤوس الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين. يجري عمل كلا المحورين بشكل متوازٍ ومنسق وعبر تفاهمات شاملة. يقارب المحور الأول الأزمة من خلال خمسة ملفات رئيسة هي: العراقي والسوري واللبناني واليمني والليبي، بالإضافة إلى ملفات جزئية أخرى، ويقارب المحور الثاني الأزمة من خلال: الملف الأوكراني، وتقاسم النفوذ والتأثير في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتفاهم على موارد الطاقة الثابتة والمستدامة، ترتيبات الأمن العالمي بما فيها خارطة السلاح النووي، بالإضافة إلى ملفات أخرى مشتركة. يمكن تقديم تصور أولي للحلول المتعلقة بملفات المحور الأول بحيث تكون أرضية للتفاهمات النهائية، فالملف السوري تتمثل مقاربته في اتفاق واقعي وملزم بوقف تسليح كل الأطراف، والقضاء على «داعش»، وهو إجراء مشترك بين الملف السوري والعراقي واليمني سوف يجري التحدث عنه بتفصيل أكثر لاحقا، وإقامة نظام برلماني وزاري يكون فيه بشار الأسد رئيس جمهورية فخريا بصلاحيات محدودة، وتجري انتخابات بعد القيام بمرحلة انتقالية عمادها تمكين المهجرين من الرجوع إلى مناطقهم، على أن تتعهد السعودية ومن ورائها الخليج بدعم مالي سخي يأتي من خلال استثمارات ومعونات، وأن تحصل تركيا ومصر على حصة وافرة من الاستثمارات المتعلقة بإعادة إعمار سوريا، ويضمن لايران بقاء الأسد ضمن التسوية السياسية وأيضا اشراكها في ترتيبات بناء الامن لسورياالجديدة. وأما الملف اللبناني فصورة الحل تتمثل في: الضغط الجدي على «حزب الله» و«تيار المستقبل» للوصول إلى تفاهم سريع لاختيار رئيس جمهورية قوي يلتزم بحياد لبنان النسبي وحماية «حزب الله» وسلاحه، وترحيل سريع لجميع المهجرين في لبنان إلى بلدانهم بما في ذلك إيجاد تسويات مناسبة لملف الفلسطينيين في لبنان، ودعم الاقتصاد اللبناني من خلال استثمارات داعمة يحصل فيها السعوديون والإيرانيون والأتراك على حصص متقاربة، وقيام حكومة شراكة تملك صلاحيات كبيرة ومدعومة من كل الأطراف، وإيجاد مرجعية تتناسب مع متغيرات المرحلة تتجاوز اتفاق الطائف وتعقيداته. أما ما يخص الملف اليمني فتتمثل صورة الحل المقترحة في: إنهاء جذري لبقايا النظام السابق، خصوصا في المفاصل القيادية والأمن، وقيام كونفدرالية بين الشمال والجنوب تقوم بعملية تطبيع تدريجي انتقالا إلى الفدرالية ثم التوحد، وتقديم استثمارات ومعونات إلى كل اليمن، على اساس جغرافي وليس مذهبي، ودعم الجيش والقوات الأمنية في بسط نفوذهما على جميع المساحة اليمنية وتمكينهما من طرد «القاعدة» التقليدية و«داعش» الجديد، والتزام سعودي وايراني بعدم التدخل في الشأن اليمني على أساس مذهبي، ولا مانع من العلاقات الإيجابية القائمة على أساس احترام سيادة الدول. يتمثل مقترح حل الملف الليبي في: الاتفاق بين أطراف المحور الإقليمي على وقف دعم التسليح الخارجي لكل الفرقاء بشكل نهائي، وإعادة هيكلة القوات المسلحة بإشراف من المحورين الإقليمي والدولي بحيث لا يكون في قيادتها من قيادات النظام السابق ولا من قيادات «الإخوان» ولا من قيادات الميليشيات التي تورطت بحروب داخلية، على أن تكون مستوعبة للجميع في عملية دمج ذكية ويصار إليها مهمة ضبط الحدود وحمايتها ومنع أي تسرب للسلاح والمقاتلين من خارج ليبيا إلى داخلها وبالعكس، وتجري مرحلة مصالحة وطنية عبر عملية انتقالية مدعومة تتكلل بانتخابات شاملة تفرز مجلسا برلمانيا يمثل المكونات البرلمانية بشكل عادل، وتساهم أطراف الحلف الإقليمي بدعم اقتصادي لتحسين الأوضاع في ليبيا خصوصا من خلال الاستثمارات النفطية، كما يجري التنسيق لربط ليبيا بعلاقات تعاونية مع الدول الإيجابية من أفريقيا، ويضمن لمصر دورا محوريا إيجابيا فيها. وأما الصورة المقترحة لحل الملف العراقي فتتمثل في تعهد جميع أطراف المحور الإقليمي بمنع قيام أي دولة كردية ولا التشجيع عليها أو على أي مشروع انفصالي، مع العمل بجد على تسوية الخلافات بين الأكراد والحكومة في بغداد خصوصا في ما يتعلق بالثروات والمناطق المختلف عليها، ومنع أي تسليح لأي طرف إلا عبر مؤسسات الدولة الرسمية، وأن يتم التنسيق الميداني بين المحورين الدولي والإقليمي مع الحكومة السورية والعراقية من أجل القضاء النهائي على «داعش» وتحرير المناطق التي تم الاستيلاء عليها وإعادة المهجرين والنازحين إليها، وإعادة هيكلة الجيش العراقي بطريقة تؤمن مشاركة كل المكونات فيه على مستوى القيادة والأفراد وضمان تسليحه وتدريبه بالشكل الذي يتناسب فعلا مع التحديات التي تشهدها المنطقة والتأكيد على مهام تتركز في ضبط الحدود وحماية الدولة من أي اعتداء خارجي والتواجد على مخارج المحافظات، على أن يكون أمن المحافظات مؤمناً عبر مؤسسة شرطة فاعلة ونزيهة ومدربة للتعامل مع التحديات المدنية وتحظى بقبول السكان وتتشاطر معهم عملية الأمن، وأن يتم حل جميع المجموعات المسلحة غير النظامية وإنهاء المظاهر المسلحة وتجريم أي تصرف مسلح يصدر عن غير مؤسسات الدولة، وأن تكون هناك عملية إعمار للمناطق المتضررة ويشارك الاستثمار المصري والسعودي خصوصا في المناطق الغربية، كما يمكن الاستفادة من المصريين في ملف المياه والسدود والإصلاح الزراعي، وأن تتعهد مصر والسعودية بالقيام بحملة واسعة ومؤثرة لإعادة العلاقات العراقية - العربية، وتتم تسوية الملفات محل الإثارة مثل قانون «المساءلة والعدالة» وقضية المشاركة في الملف الأمني وتوسيع صلاحيات المحافظات، في ما يتعلق بمسائل الخدمات وضبط الأمن المحلي وإجراء مصارحة ومصالحة، تساهم بعملية تداوي سريعا جميع الجروح التي خلفها الاحتراب السياسي والطائفي على أن يجد أعضاء المحورين الإقليمي والدولي مصالحهم واضحة ومكفولة في جميع التسويات التي تجري في المنطقة. إلى جانب تلك الملفات الرئيسة لا بد من الوصول إلى اتفاقات واضحة بشأن القدر المناسب الذي ينبغي أن يحققه الملف النووي الإيراني مقابل ضمانات إيرانية مؤكدة بشأن عدم التدخل السلبي في أمن دول الخليج والمنطقة، وأن تضمن تركيا كبح جماح قطر وضبط إيقاع سلوك «الإخوان» مقابل أسواق واستثمارات واسعة في المنطقة العربية، وأن تشعر مصر الجديدة بعدم التهديد الداخلي أو الخارجي مقابل إيجاد صيغة تسلك طريقا متوسطا بين وجود «الإخوان» في السلطة أو التعامل معهم كمجموعات إرهابية، وأن تطمئن الملكيات والإمارات والسلطنات الخليجية إلى أن الجميع ملتزم بعدم دعم أي تحركات داخلية لتقويض تلك السلطات وأن عملية التغيير والإصلاح تبقى شأنا داخليا. لا شك في أن هناك أوراقاً مناسبة تتعلق بطبيعة الملفات التي يناقشها الحلف الدولي التي ستتم مزاوجتها مع طبيعة التسويات التي يشتغل عليها المحور الإقليمي، فهناك ثلاث ورشات عمل: إقليمية، ودولية، وإقليمية - دولية، كلها تعمل في وقت واحد للوصول إلى التسويات النهائية. لقد تعمد هذا العرض الإستراتيجي أن يؤخر الملف الأكثر تعقيدا وتشابكا وهو الملف الفلسطيني الإسرائيلي، والسبب في ذلك، أن مقاربتنا ترى أمرا مختلفا في ما يتعلق بهذا الملف، فقد جرت العادة على الحديث عن تسويات شاملة لملفات المنطقة أن يبدأ الحديث من الصراع العربي - الإسرائيلي بوصفه القضية المركزية أو أم القضايا أو غير ذلك من التوصيفات، وأن تلك المقاربات ترى بأن نتائج تسوية هذا الملف هي التي تحدد مسارات الملفات الأخرى. لكننا في هذه المقاربة نرى بأن نتائج مطابخ الورشات الثلاثة وصورة التسويات النهائية لملفات المنطقة هي التي تفرض قهرا شكلا مناسبا من التسويات للملف الفلسطيني، والتي تعني حتما صورة من الحل تنقل الاوضاع إلى حالة أفضل بكثير مما كانت عليه طيلة السبعين سنة الماضية، وسيكون ذلك الخطوة الحاسمة باتجاه تسوية هذا الملف نهائيا. إن عدم العمل على الخيار الثاني يعني وقوع الانفجار الكبير الذي يبدأ من انشطارات غير منتظمة لدول مثل العراقوسوريا واليمن وليبيا، وتتدحرج كرة النار باتجاه جميع دول المنطقة مدخلة إياها في فوضوى عارمة تنسف جميع منتجات التنمية لقرون، وتقضي على مصادر الطاقة التي يتوقف عليها العالم بأسره وتحول الوضع إلى فتنة عمياء تأكل الأخضر واليابس ولن يخرج من شرها أحد سالما. (خبير في الشؤون الأمنية والاستراتيجية)