نشرة إنذارية: امطار رياح مرتقبة بعدد من مناطق المملكة    نظام العسكر يبتز "جون أفريك" والصحافي ديالها: إلى بغا يدخل للدزاير خاصها تبدل مواقفها ولا يمشي هو من المجلة    أرقام رسمية كتخلع.. أزيد من 82 فالمية من الأسر المغربية صرحات بتدهور المعيشة ديالها    وزير : قطاع الطيران .. الحكومة ملتزمة بدعم تطوير الكفاءات    قبل مونديال 2030.. الشركات البرتغالية تتطلع إلى تعزيز حضورها في السوق المغربية    "ميتا" طلقات مساعد الذكاء الاصطناعي المجاني فمنصاتها للتواصل الاجتماعي    السلطات الجزائرية تحتجز بعثة نهضة بركان بمطار الهواري بومودين بسبب خريطة المغرب    الصندوق المغربي للتقاعد ينضم إلى برنامج "داتا ثقة" لحماية المعطيات الشخصية    الوكيل العام ففاس قرر تمديد فترة الحراسة النظرية فحق الشبكة اللي كيتزعها سوري ونصبات على بنات ففاس لاستغلالهن فالدعارة    كان واعر في الأدوار الدرامية.. وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني وفعمرو 81 عام    محاكمة طبيب التجميل التازي ومن معه.. النيابة العامة تؤكد ارتكاب جريمة "الاتجار في البشر"        توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    طغى عليه الغياب واستحواذ الأغلبية على مقاعد الأمناء والمحاسبين : انتخاب مكتب مجلس النواب    ردّا على المسرحية الإيرانية.. إسرائيل تطلق صواريخ بعيدة المدى على مدينة أصفهان    مجلس النواب يعقد جلسة عمومية لاستكمال هياكله    طنجة .. توقيف ثلاثة أشخاص لإرتباطهم بشبكة إجرامية تنشط في المخدرات    ميراوي: أسبوع يفصل عن إعلان سنة بيضاء وبرلمانيون يناشدونه التراجع عن القرارات تأديب طلب الطب    في تقليد إعلامي جميل مدير «الثقافية» يوجه رسالة شكر وعرفان إلى العاملين في القناة    جمال الغيواني يهدي قطعة «إلى ضاق الحال» إلى الفنان عمر السيد    الطريق نحو المؤتمر ال18..الاستقلال يفتح باب الترشح لعضوية اللجنة التنفيذية    الهجمات على إيران "تشعل" أسعار النفط    فيتو أميركي يٌجهض قرار منح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة    صورة تجمع بين "ديزي دروس" وطوطو"..هل هي بداية تعاون فني بينهما    منظمة الصحة تعتمد لقاحا فمويا جديدا ضد الكوليرا    المدير العام لمنظمة "FAO" يشيد بتجربة المغرب في قطاعات الفلاحة والصيد البحري والغابات    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    السودان..تسجيل 391 حالة وفاة بسبب الاصابة بمرضي الكوليرا وحمى الضنك    باستثناء الزيادة.. نقابي يستبعد توصل رجال ونساء التعليم بمستحقاتهم نهاية أبريل    التراث المغربي بين النص القانوني والواقع    العصبة الاحترافية تتجه لمعاقبة الوداد بسبب أحداث مباراة الجيش    أخْطر المُسَيَّرات من البشر !    سوريا تؤكد تعرضها لهجوم إسرائيلي    ورشة في تقنيات الكتابة القصصية بثانوية الشريف الرضي الإعدادية بجماعة عرباوة    مهرجان خريبكة الدولي يسائل الجمالية في السينما الإفريقية    لوسيور كريسطال تكشف عن هويتها البصرية الجديدة    "قتلوا النازحين وحاصروا المدارس" – شهود عيان يروون لبي بي سي ماذا حدث في بيت حانون قبل انسحاب الجيش الإسرائيلي    الدكيك وأسود الفوتسال واجدين للمنتخب الليبي وعينهم فالرباح والفينال    ضربات تستهدف إيران وإسرائيل تلتزم الصمت    تفاصيل هروب ولية عهد هولندا إلى إسبانيا بعد تهديدات من أشهر بارون مخدرات مغربي    بعد نشر سائحة فيديو تتعرض فيه للابتزاز.. الأمن يعتقل مرشد سياحي مزور    مليلية تستعد لاستقبال 21 سفينة سياحية كبيرة    تقرير يُظهر: المغرب من بين الوجهات الرخيصة الأفضل للعائلات وهذه هي تكلفة الإقامة لأسبوع    واش اسرائيل ردات على ايران؟. مسؤولوها اكدو هاد الشي لصحف امريكية واعلام الملالي هدر على تصدي الهجوم ولكن لا تأكيد رسمي    المغاربة محيحين فأوروبا: حارث وأوناحي تأهلو لدومي فينال اليوروبا ليگ مع أمين عدلي وأكدو التألق المغربي لحكيمي ودياز ومزراوي فالشومبيونزليك    "الكاف" يحسم في موعد كأس إفريقيا 2025 بالمغرب    خطة مانشستر للتخلص من المغربي أمرابط    بيضا: أرشيف المغرب يتقدم ببطء شديد .. والتطوير يحتاج إرادة سياسية    نصف نهائي "الفوتسال" بشبابيك مغلقة    الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم يطالب بفرض عقوبات على الأندية الإسرائيلية    "قط مسعور" يثير الرعب بأحد أحياء أيت ملول (فيديو)    الانتقاد يطال "نستله" بسبب إضافة السكر إلى أغذية الأطفال    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (6)    الأمثال العامية بتطوان... (575)    وزارة الصحة تخلد اليوم العالمي للهيموفيليا    هاشم البسطاوي يعلق على انهيار "ولد الشينوية" خلال أداء العمرة (فيديوهات)    الأمثال العامية بتطوان... (574)    خطيب ايت ملول خطب باسم امير المؤمنين لتنتقد امير المؤمنين بحالو بحال ابو مسلم الخرساني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأصوليّة: الاصطلاح والمفهوم
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 15 - 11 - 2014

ما هو الانطباع الذي يمكن للمرء أن يخرج من خلاله وهو يقرأ لمرسيا إلياد درساً تحت عنوان «الانبعاث من خلال العود إلى زمن الأصول»؟ هناك أشكلة كبيرة، في الواقع، أمام هذا. أيضاً هناك ماكس فيبر الذي يخبرنا عن الجماعة الدينية التي تتحرك باتجاه إلهها: »تتحرك الجماعية كلها صوب إلهها. لكن ما «العود»؟ وما هو «زمن الأصول»؟ هذه ميادين »مخيالية« كبيرة، ميادين تمثل العماد الرئيس في عالم الأصولية. إنها ميادين منفلتة من التاريخ، رغم أن التحليل التاريخي قادر على ضبطها ودرسها، بعكسها هي. وإذا كنا لا نستطيع في سياقنا الخوض بهذا، على نحو واف، فإننا سنكتفي الآن فقط للإشارة إلى بعض إشكالات هذا الاصطلاح: الأصولية.
ما هو الانطباع الذي يمكن للمرء أن يخرج من خلاله وهو يقرأ لمرسيا إلياد درساً تحت عنوان «الانبعاث من خلال العود إلى زمن الأصول»؟ هناك أشكلة كبيرة، في الواقع، أمام هذا. أيضاً هناك ماكس فيبر الذي يخبرنا عن الجماعة الدينية التي تتحرك باتجاه إلهها: »تتحرك الجماعية كلها صوب إلهها. لكن ما «العود»؟ وما هو «زمن الأصول»؟ هذه ميادين »مخيالية« كبيرة، ميادين تمثل العماد الرئيس في عالم الأصولية. إنها ميادين منفلتة من التاريخ، رغم أن التحليل التاريخي قادر على ضبطها ودرسها، بعكسها هي. وإذا كنا لا نستطيع في سياقنا الخوض بهذا، على نحو واف، فإننا سنكتفي الآن فقط للإشارة إلى بعض إشكالات هذا الاصطلاح: الأصولية.
لكن، أولاً، فيما يخص لفظة »المخيال«، أرغب البدء بإعادة التذكير بما قاله ستيفن هوكينغ في A Brief History of Time؛ أولاً عن الزمان المخيالي حيث: »يتعذر تمييز الزمان المخيالي عن الجهة في المكان. إذا استطاع الشخص التوجه شمالاً، فإنه يستطيع الاستدارة جنوباً؛ وبالمثل إذا استطاع الشخص في الزمان المخيالي التوجه أماماً، فإنه سيستطيع التوجه والاستدارة إلى الخلف. وهذا يعني أنه ليس هناك فرق مهم في الزمان المخيالي بين الأمام والخلف«.
وهذا بعكس الزمان »الحقيقي« والواقعي، ثانياً: »فحينما ينظر الشخص إلى الزمان «الواقعي» [الحقيقي] فهناك فرق كبير بين جهتي الأمام والخلف كما نعلم كلنا«. إذن نحن أمام زمانين، الأول مخيالي، بينما الثاني واقعي، حقيقي أو حتى تاريخي. والافتراق في الاستحقاقات بين الزمانين، كما هو الافتراق بين داتا الميثولوجيا الأسطورية وداتا الوثيقة التاريخية، كما هو الافتراق بين اللوغوس والميثوس.
ينتمي الأصولي، في زمانيته، إلى الزمان الأول، الزمان المخيالي. هذه ناحية مهمة من المهم وضعها دائماً في الاعتبار. بالإمكان الآن البدء باصطلاح الأصولية بعد الأخذ بعين الاعتبار بهذه الملاحظة، ذلك أنها تشكل محطة رئيسية في أي بحث في الأصولية.
في الواقع، ليس اصطلاح الأصولية بالاصطلاح السهل الذي يمكن ضبطه أو حصره في زاوية نقدية ما أو ضمن إطار مفاهيمي يُبنى عليه. وبالفعل، إنه من الاصطلاحات المخاتلة والمراوغة. ولنكن صريحين، إنه من أشد الاصطلاحات خداعاً، ومن الاصطلاحات التي مثّلت بمثابة ميدان صراع نقدي كبير وسط النقاد والباحثين، وتحديداً من الباحثين الغربيين. اليوم ربما يجد مخترعو الاصطلاح من البروتستانت الأميركيين تحرجاً في تطبيقه على أنفسهم؛ لكن لا ننسى أنه كان في يوم ما مرآة فخر لا ينظرون إلى أنفسهم إلا من خلالها، وذلك حينما شيّدوا في أوائل القرن العشرين أوّل عمل في التنظير الأصولي يستخدم مفردة »الأصول« كهدف في البناء الثيولوجي والثيو-بوليتيكي (تمّ نحت الاصطلاح على يد البروتستانت من خلال العمل التأسيسي »The Fundamentals« والذي يُعتبر جمعاً من المقالات والأبحاث في 12 مجلد، 1910-1915، وشارك به كتاب أوروبيون وأميركيون، وحرره السيد توري R. A. Torry والسيد ديكسون A. C. Dixon .
لن ينتظر العالم الإسلامي كثيراً حتى يأتي السيد هاملتون جب H. Gibb المستشرق الاسكتلندي الكبير، 1895- 1971 لكي ينقل الاصطلاح من الميدان الأصولي المسيحي إلى الميدان الأصولي الإسلامي وليطبقه على أوائل الحركات الإحيائية في العالم الإسلامي، وتحديداً على الأصولي السيد جمال الدين الأفغاني، والذي أُدرج، إسلامياً، على نحو مفارق، ضمن خانة الإصلاحيين الأوائل. لهذا، يبقى الفضل يعود إلى هاملتون جب كونه أوّل من استخدم الاصطلاح في السياق الإسلامي. ورغم ذلك، لم يكن جب يعلم مدى المعارك التي سيشعلها بعده بخصوص الدقة المفاهيمية في تطبيق الاصطلاح على الإسلاميين الذين أخذوا بالتكاثر بمقدار ما أخذت المعارك الحداثية تحيط بهم يمنة ويسرى. ويقوم جوهر هذه المعارك وفق دعوى أنه طالما أنّ الاصطلاح قد ولد في بيئة مسيحية، فلا يجوز تطبيقه على بيئة أخرى، وذلك بسبب اختلاف معايير واستحقاقات البيئة المسيحية عن غيرها: الأصولية هو اصطلاح مسيحي يحمل في داخله حمولات ثيولوجية مسيحية من الصعب تطبيقها حرفياً على أيّ سياق آخر. لكن دعونا نؤكد أنّ مثل هذه الدعوى لا تحمل أيّ بعد نقدي، وبخاصة أنها تنطلق من أصوات ثقافوية، ولا تنظر بمعايير السياق اللاهوتي والفكري الذي يُنتج البنى الأصولية، بل بمعايير البنى نفسها معزولة عن سياقها، من جهة، ولا تنظر إلى الظاهرة الدينية بمناهج »الأديان المقارنة«، بل بالأحرى وفق أعين تعالي لاهوت ما على لاهوت آخر.
إنّ تطبيق الاصطلاح على سياق آخر غير المسيحي، لا يعني على الإطلاق تفريغه من محتوياته الثقافية التي أخرجته إلى الوجود، لكن لا بد من تسجيل ملاحظة: أنّ كل الأفكار الأصولية تنتمي في نهاية الأمر إلى عائلة واحدة، عائلة تتشابه مطامحها وتأسيساتها الثيولوجية، لكن مع الاحتفاظ كيف تُسيّق Contextualizing هذه المطامح والتأسيسات في السياقات الثقافية والتاريخية المختلفة، وبالتالي كيف تختلف درجة (لا النظيمة الجوهرانية) كل أصولية عن أخرى. هناك عمل نقدي ضخم نحب الإشارة إليه هنا في تفحص ودرس الأصوليات المختلفة عبر العالم. وقد عنون هذا العمل ب مشروع الأصولية »Fundamentalism Project« كان قد حرر من قبل نخبة من الأكاديميين العالميين؛ وهو عمل يعتبر إلى الآن من أهمّ ما أنتجته المكاتب العالمية في درس الأصولية، رغم الانتقادات التي وجهت إليه. إنه هو العمل الذي درس الأصوليات عبر العالم (شمل ما يقارب ثمانية عشر ظاهرة أصولية في العالم)، وذلك من خلال كون هذه الأصوليات تنتمي إلى العائلة التي تتماثل في رؤاها التأسيسية الثيولوجية ومطامحها الإحيائية Family Resemblances. لكن ربما هنا من المهم الالتفات إلى ملاحظة مهمة. إذا كانت فكرة تأزم الإحياء المسيحي البروتستانتي ضد الحداثة الأوربية والأميركية قد تمت من »داخل« السياق العام المنتج للحداثة، فإنّ تأزم الإحياء الإسلامي والقومي قد تم من »خارج« سياق إنتاج الحداثة. تعتبر هذه النقطة على غاية الأهمية ونحن نقرأ التأزم الهوياتي الشديد عند الطرف الإحيائي الإسلامي والقومي. وهو تأزم كان ينطلق من ثقافة عريضة متأزمة مع ذاتها ومع الآخر (بخاصة الغرب) والتي لم تكن لتقتصر على الجانب السياسي فحسب، بل طال ذلك معظم الجوانب القاعيّة والثقافية الأخرى. ليس من الغريب بالتالي، أنّ العدو الذي كان يظهر للأصولي والقومي في المرآة في بلاد المشرق، كان أضخم بكثير من العدو الذي كان يظهر أمام الأصولي المسيحي في إدانته خاصة للحداثة.
الناحية الأخرى التي نرغب في التأكيد عليها هو المغالطة الكبرى في قصر اصطلاح الأصولية على الظاهرة الدينية فقط. ومرد هذا التأكيد أنّ الأصولية ليست فقط مجموعة محنطة من الأفكار الدينية مقولبة وفق قالب أيديولوجي محدد. الأصولية أبعد من ذلك، إنها فضاء فكري، بارادايم ذهني، العماد الرئيس فيه هو النكوص إلى الوراء بحثاً عن مقدس، عن هوية، عن ضبط متخيل لوجودٍ حاضر...الخ. وهذه النقطة كما أنها تنطبق على الأصوليين الدينيين، فإنها كذلك الأمر تنطبق على معظم من يذهب في الماضي، كما هو حال الحركات القومية. من هنا الرفض القاطع للقول أنّ استخدام اصطلاح الأصولية لا يصح إلا في المجال الديني.
يقف سبب جوهري، من بين أسباب عدّة، لصعود الظاهرة الأصولية يتمثل بلحظة »توتر« يعيشها الأصولي. وغالباً ما يكون هذا التوتر بين الذهنية المتحكمة بالأصولي وبين واقعه التاريخي. الأمر الذي يؤدي بالأصولي إلى رفض شديد للواقع، وبالتالي إلى تأزم معه. حدث مثل هذا التأزم مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين مع جماعات مسيحية بروتستانتية أرادت الرجوع بالتاريخ إلى »الأصول« وذلك بهدف إعادة »إحيائها«. وقد عُبّر عن بداية انطلاق هذه الأصولية البروتستانتية من خلال العمل الذي أشرنا إليه سابقاً The Fundamentals. وبسبب الإصرار البروتستانتي على إحياء »أصول«هم (وقد ركزوا على خمسة أصول مسيحية في الواقع)، فلم يجدوا غضاضة حينها أن يُسمّوا من قبل محاربيهم ب »الأصوليين Fundamentalists« المتشددين، لا بل هم من نعتوا أنفسهم بذلك وخاصة أنهم اعتبروه لقباً فخرياً، لأنه اصطلاح (الأصولية) لا يحيل إلى شيء سوى إلى »إحياء« أصول العقيدة المسيحية. تلك كانت أبرز الحركات المسيحية الأصولية التأسيسية والتي ستتطور لاحقاً جنباً إلى جنب مع الأصولية اليهودية لتأخذ أشكالاً أخرى مع اليمين المسيحي بهدف إنشاء »مملكة يسوع على الأرض«، وهي المهمة التي يؤكد عليها الأصوليون الإسلاميون من جانبهم لإنشاء »مملكة الله على الأرض«، وفق مثال »اللحظة المحمدية«.
في الحقيقة، تمثل مرحلة السبعينات فما فوق من أشد مراحل التاريخ الذي شهد ولادة حركات أصولية في العالم أجمع: من الاستحقاقات الأصولية التي فرضت بعد الثورة الإيرانية، إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث بدأت الأصولية اقتحامها للمجال العام، وخاصة السياسي منه (عن طريق الانتخابات وغيرها)، إلى مصر حيث الإخوان بدأوا معاودة التنفس والظهور بأشكال جديدة بعد قمع جمال عبد الناصر، إلى أفغانستان الجهاد الإسلامي، إلى سورية حيث الثورة الإسلامية بقيادة الإخوان، إلى الجزائر جبهة الإنقاذ، إلى الهند وسيرلانكا حيث الأصولية التي ترتدي طابعاً قومياً، إلى شمال أيرلندا حيث الصراع الطائفي والأصولي، وعشرات من المناطق العالمية الأخرى.
ما تمثله هذه الأصوليات هو التأزم الفكري الذي فُرض في العصر الذي قيل أنه عصر ما بعد الحداثة. وإذا كنا نشدد على القراءة السياقية التاريخية لكل أصولية وفق شروط السياق الثقافي والديني الذي أنتجها، إلا أنه لا يمكن أن نغفل أن معظم هذه الأصوليات تنتمي إلى عائلة لاهوتية واحدة، تختلف في التفاصيل، بيد أنها تتفق جوهراً وبنيوياً. ويمكن هنا الإشارة إلى بعض هذه التقاطعات عبر الأصوليات على مختلف ثقافتها، لكن لا على سبيل الحصر:
1- تعتقد الأصوليات أنها في معركة إلهية، كوزميكة، أو على خشبة من المسرح (وهو مسرح ميثولوجي) حيث الصراع بين الخير والشر. وطالما أنّ الأصوليين هم الطهرانيون، فهم سيفوزون بالنصر الإلهي، حتى ولو طال بهم الأمد. إنّ الفكرة الأصولية بجوهرها هي فكرة »طهرانية Puritanism « تهدف إلى تطهير الأصولي لنفسه المتأزمة أولاً وللواقع »المدنس« المحيط به ثانياً. لهذا يُنظر إلى ذهنية الأصولي بأنها تعاني أزمة »وعي« لذاته وفي طريقة النظر إلى العالم، الذي يراه كما لو أنه كرة متدحرجة من التآمر والعدوان على طهرانيته. والأصوليون لا يعتبرون أنفسهم في هذا العالم إلا بكونهم »أقلية« وسط ظلام، ومن مهمتهم إنارته. وأبعد من ذلك، الأصولية البعثية هي أزمة انتماء للتاريخ: أزمة هوية. لا ينظر الأصولي إلى هذا العالم إلا بكونه عالماً فقد أصوله بالسماء؛
2- وإذا كان الأمر على هذا النحو، فلا ينظر الأصولي إلى التاريخ إلا وفق منظار دائري، لا أفقي، حيث كل التاريخ يعود إلى نقطة واحدة، هي لحظة الأصل، لحظة الخلاص. وعليه فالتاريخ هو التاريخ بين المقدس والمدنس؛
3- من هنا، فإنّ الذهنية الأصولية هي ذهنية إضافة إلى كونها مانوية- ثنوية، فهي ذهنية مثاليةُ الطابع والجوهر؛
4- وطالما أنها مثالية، غير تاريخية، فهي ذهنية إطلاقية سواء في محمولاتها الثيولوجية أو الثيو-بوليتيكية. من هنا تفسير لماذا يغلب على معظم الأصوليات الجوهرانية التوتاليتارية، ولماذا يشترك مع الأصولية نظمٌ فكرية لا تتخذ من الدين كمستند أدلوجي في نظائمها، كما هو الأمر في القومية، الشيوعية، ما بعد الحداثة...الخ. (وهذا حديث آخر مهمّ ربما نأتي عليه لاحقاً في أبحاث أخرى)؛
5- تتخذ الأصولية من الماضي كإطار مرجعي في القياس أو التخطيط لما سيحدث في المستقبل. والماضي هنا لا يُحاكم بشروطه التاريخية التي أنتجته، بل وفق شروط الأصولي العدمية؛
6- ولأن الأصولي ضد التاريخ، فهو دائماً ضد الحداثة. الأصولي هو مخلوق يولد خارج الحداثة؛ وهو يتخذها كذريعة في أصوليته بحجة أنها ضد الدين الأصل. الأصولية هي ظاهرة »احتجاج« ضد اللحظة التاريخية التي يعيش بها الأصولي. ظاهرة احتجاج ليس ضد بعض مظاهرها التي تتعارض مع ذهنية الأصولي فحسب، بل مع بارادايمات اللحظة التي تشكل قوام هوية اللحظة التاريخية التي يعيش جسد الأصولي بها. وربما تتعدد مستويات ظاهرة الاحتجاج، لكن ما يهمنا الآن الحديث عنه هو أنّ إبستيمة الاحتجاج تتجلى برفض انتماء الأصولي لهوية اللحظة. موقف الأصولي تجاه هذه اللحظة أنه يعيد تشكيل هويتها بحسب ما يرتأيه. وهذه العملية يسبقها، لا شك، »وعي« باللحظة، لكنه وعي تأزمي يفضي بالأصولي إلى وضع أمام تناقض هوياتي بينه وبين هوية سياقه التاريخي. إنها في غالب الأحيان تأخذ إعادة التشكيل للواقع التاريخي على يد الأصولي منحى باتجاه »تدنيس«ه Profanisation . سيد قطب لم يدنس عالمه الإسلامي فقط، بل قام بتدنيس العالم »كل«ه، فأطلق عليه صفة »الجاهلية«. وفقط بحسب قوة التدنيس يمكن الحديث عن مقدار تأزم الأصولي في انتمائه إلى العالم. هناك دائماً في مخيال الأصولي عمليات خلق وإعادة خلق، تقديس وإعادة تقديس Re-sacralization ، وبالتالي تدنيس أو بالأحرى إذا شئنا الدقة أكثر: تدنيس المقدس De-sacralization فيه، وذلك بغية بناء مقدس خاص به. وهذا بحسب ضغط واقع الأصولي التاريخي عليه.
7- دائماً ما يسيطر على الأصولي بارادايم أنّ الشرط الديني الذي يعيشه في حاضره هو شرط يغلب عليه الانحراف والمعصية؛ وبالتالي يغلب على الأصولي سمة أنه شخص »معارض« دائماً لكل ما يقع تحت عينيه. أما كمال الدين والطهرانية فيقعان في لحظة الأصل، لحظة الخلاص الماضوية التي يتخيلها الأصولي؛
8- وهناك ركيزة من ركائز الأصولية غالباً ما يتحدث عنها النقاد والباحثون، هي »الانتقائية«، حيث يغلب على الأصوليين في تعاملهم مع التراث أنهم يختارون منه ما يوافقهم في الحاضر لمآربهم الثيو-بوليتيكية. بيد أنّ هذا الرأي وإن كان ينطبق على بعض الأصوليين إلا أنه لا يمكن اتخاذه وتطبيقه على معظم الأصوليات أو اتخاذه كمعيار في درس الأصولية.
ربما الأصح القول في الركيزة الأخيرة، أنّ الأصولية تتمتع بسمة (وهي للأسف ما يغيب عن الباحثين) أنها نظيمة مائعة، فكرية سائلة. وهذه الركيزة تُعتبر من أهم ما ينطبق على الأصوليات العالمية. وهذا هو السبب الرئيس أنه لا يمكن حصر الأصولية بزاوية نقدية محددة. من هنا، ربما ينبغي اعتبار الأصولية أنها نمط فكري أكثر من كونها أيديولوجية مقيد بأفكار محددة. إنّ الأصولية في الحقيقة نمط بعثي إحيائي. إنّ الأصولي ينطلق من الماضي ويتخذه كنقطة انطلاق للمستقبل؛ وبالطبع الحاضر مُسقط سلفاً، وهذا معنى من معاني »عدمية الأصولي«.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.