39 سنة على جلاء آخر جندي أجنبي عن التراب الوطني مناسبة ملائمة لكي نقيس ، من عمق الحدث، المسافة التي قطعتها بلادنا في استكمال حريتها. وتثبيت سيادتها ، عبر تحرير التراب وتحرير القرار الوطني . وهي مناسبة أيضا لكي نضع الجلاء في سياقه التحرري . فالجلاء ، في محصلته هو تتويج لمسار كفاحي طويل الأمد، لإنهاء احتلال فريد في تاريخ البشرية، لبلاد توزعتها قوتان استعماريتان، كان عليها أن تخوض التحرير على جبهتين عسكريتين وعلى جبهات جغرافية وسياسية متعددة. وهوما أفلح فيه جيل من القادة الوطنيين إلى جانب الملكية الشرعية المناضلة، بذكاء جماعي. وبذلك كان الجلاء تكريسا للإرادة الوطنية المشتركة في استكمال التحرير الترابي، الذي كان قاعدة لاتفاق العرش والشعب منذ يناير 1944 أساسا، وزادت قوته مع ربط السيادة الوطنية بعودة الملك محمد الخامس، الملك الشرعي الذي تجددت شرعيته بالتحالف مع شعبه وارتباطه مع القوى الوطنية. فالجلاء هو ، مرة أخرى التكريس العملي للقاء تلك الإرادتين، حيث كلما التقيتا حصل التفوق الميداني، والتدبير الحكيم لمطالب ومتطلبات المغرب الحر. كما حصل عند تحرير أقاليمنا الجنوبية. فقد أصبحت المسيرة الخضراء ، التي دقت المسمار الأخير في نعش الاستعمار الاسباني في الجنوب، ومهدت للجلاء العسكري لآخر جندي فيه، ممكنة بعد أن حصل الاتفاق على جدول أعمال وطني تحتل فيه السيادة الوطنية على الأرض، الأولوية، على قاعدة تحرير المشهد السياسي من مخاوف التنازع على السلطة، فكان الانفراج السياسي على قاعدة التوافق الوطني، المستند إلى دعامتي التحرير واستكمال البناء الديموقراطي، عبر إطلاق المسلسل الديمقراطي. وهذه الروح التي تواصلت الى حدود الآن، كانت وراء تجربة التناوب السياسي التوافقي، والاصلاحات الدستورية كلها، أثبتت أنه كلما كان هناك تحالف نسقي بين الإرادتين الوطنية والملكية، كان الخروج من المنعطفات الصعبة سلسا وسياديا. ليس من قبيل الصدفة، من زاوية القراءة هاته، أن سنة 1976 نفسها، في خضم الربط الجدلي بين الوطنية والديموقراطية، عرفت إطلاق المبادرة الاتحادية، من خارج نسق السلطة وتفكيرها ومؤسساتها، وعلى أساس الأرضية المشتركة في الوطنية، لمبادرة الحكم الذاتي (انظر نص الوثيقة)، كما عرفت وضع الشروط العملية لقرار الجلاء، وهو ما يكشف التفكير الجماعي من أجل الوطن، وإن اختلفت المواقع. والاتحاد، الذي يعرّف نفسه كاستمرار لحركة التحرير الشعبية، اعتبر الجلاء الأجنبي قاعدة فلسفته في الوجود السياسي والنضالي، لهذا يعتز بالنظرة الثاقبة والعميقة لمناضليه وقيادييه في تلك الفترات العصيبة من البناء الوطني ، والذين استندوا إلى تاريخهم وتفكيرهم التقدمي وطرحوا البديل الديمقراطي داخل الوحدة الترابية.. وهو اعتزاز أكده التاريخ وتطورات الوضع في القضية الوطنية والمحيط العالمي، عبر التأكيد على «جدية ومصداقية» مقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب الى المحافل الدولية، ضمن مشروع واسع لإعادة تغيير طبيعة الدولة في البلاد بجهوية موسعة وبتغيير في العلاقة بين المركز والمجالات المحلية. لقد عمل المغرب على تحرير الصحراء، وعمل على تنميتها، وعندما استعصى الحل، بفعل تداخلات الحرب الباردة ومراكز التنافس في المغرب الكبير، وجد، مرة أخرى الحل لأقاليمه الشرعية عبر الحكم الذاتي، وقوة البلاد في كل ذلك هي تلاقي الإرادتين، الوطنية والملكية، جوهر التطور والمناعة في مغرب اليوم ومغرب الغد.