يعمل هذا الركن على تعريف القارئ وتقريبه من المصادر الكبرى في المعرفة والإبداع، من أعمال فنية، بما فيها الرسوم والمنحوتات والتجهيزات... التي تعتبر من بين أهم ما أسس للمعرفة الجمالية، وما رافقها من أحداث جعلت من هذه الأعمال الفنية شاهدة على العصر بكل تقلباته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فيرناندو بوتيرو، فنان تشكيلي كولومبي، ولد سنة 1932، تميزت أعماله بموضوعات نضالية هادفة، تسعى إلى تقديم الواقع من وجهة فنية مختلفة، وهو فنان مرتبط بمواقفه كمبدع وفنان بالأحداث الراهنة سواء كانت سياسية أو اجتماعية، كما يعتبر من الفنانين الأحياء المعروفين والمتألقين عالميا، بدأ مسيرته سنة 1958، عندما حصل على الجائزة الأولى لصالون الفنانين الكولومبيين، قام من خلال رحلاته المتعددة إلى أوربا والولايات المتحدةالأمريكية بتطوير أسلوبه الفني، الذي يعتبر فريدا من نوعه، نظرا لاستقلاليته عن الاتجاهات التشكيلية السائدة، اعتمادا على أصالة محلية استمدها من الفن الشعبي ببلده، ويعيش رفقة زوجته «صوفيا فاري»، متنقلا بين أمريكا الشمالية وفرنسا وإيطاليا. تتميز أعمال بوتيرو بحدة الشكل واللون... الذي تفرضه نوعية التيمات السردية المطروحة، التي تم اختيارها بعناية فائقة، نظرا لتكوينه الثقافي الذي لا يفصل بين الموضوع والتقنية، باعتبارهما متوازيان لا يمكن الاستغناء عن ازدواجيتهما، لأهمية خدمتهما المتبادلة للقضايا المحورية والضرورية كأسئلة مقلقة حول الأوضاع الاجتماعية والسياسية محليا وكونيا. إن انشغال الفنان بوتيرو بما يمس الفرد ككائن له الحق في الوجود، نابع من قناعته بضرورة الاستمرارية النضالية لتحقيق العدالة الإنسانية، وراجع إلى أنه كما قال : «في يوم من الأيام، لم أجد ما أقوله... وأحسست بأنني فارغ ومملوء بنوع من الهدوء، حيث استأصلت غضبي وأحسست بالإحباط، لكن ما تبقى لي، هو الإيمان بأنني فعلت شيئا صائبا وضروريا». فكانت ثلاثيته المشهورة عن سجن أبو غريب بالعراق، وما نتج عن الحرب الدائرة في منطقة الشرق الأوسط، عربونا على مواقفه الإنسانية النضالية ضد كل أشكال القهر والتعذيب بمختلف أنواعه، التي لم تقتصر على منطقة معينة، بل كل ما قد ينتج من مخالفات وخروقات حقوقية قد تطال كل أنحاء العالم، مهما كانت الذريعة التي تتم تحت وطئتها هذه الممارسات. لذلك كانت هذه الثلاثية الفنية الرائعة التي تشكل جزءا من تجربته حول هذه التيمة، تبرز وتحكي بامتياز الانتهاكات الجسيمة النفسية والجسدية لكرامة الإنسان، خاصة بعد الفضيحة التي تورط فيها حراس هذا السجن الفظيع من جنديات وجنود أمريكيين، فكانت حدثا رئيسيا تصدر الإعلام العالمي بما فيه الأمريكي، بإيعاز من الضمائر الحية المنتفضة ضد القهر والظلم، مما تسبب للفنان في منعه من تنظيم معرض يتكون من 85 لوحة زيتية عن موضوع «سجن أبو غريب» بالولايات المتحدةالأمريكية، بعد قبول احتضانه مباشرة من طرف متحف الفن الحديث IVAM بمدينة فالينسيا بإسبانيا. إذ قال في أحد تصريحاته : «لقد صدمت أنا والعالم أجمع بالتعذيب الذي قام به الأمريكيون في حق المعتقلين في السجن الذي كان يستعمله الطاغية، ثم إن الأمريكيين جاؤوا على كونهم يمثلون حقوق الإنسان، ولهذا صدمت وغضبت كفنان، وكنت كلما قرأت عن هذا الموضوع تنتابني رغبة وحيوية للقيام بشيء، فأول مقال قرأته كان ل»سيمور هيرش» وأنا بالطائرة، فأخذت قلم الرصاص وبدأت بأول رسم حول الموضوع، وفور وصولي لمرسمي واصلت الاشتغال بالصباغة الزيتية، ثم قمت بدراسة كل التفاصيل التي وجدتها، محاولا من خلال استنتاج خيال سرد كل ما يجري هناك». اعتمدت طريقة معالجة الفنان بوتيرو في إنجاز هذه السلسلة التشكيلية، على أسلوب تشخيصي واقعي، للأمكنة والشخوص، التي عمل على التمطيط والإسهاب والتمديد والمبالغة في أشكالها في أوضاع مختلفة، تارة قابعة في زاوية الزنزانة، وتارة أخرى في أوضاع تعذيبية مخجلة وبشعة، استعمل فيها السوط، والكلاب، والتبول... كأشكال لا ترقى إلى مستوى احترام كرامة الإنسان، ليبرز هول التعامل داخل هذا السجن، ولكي يقف على حقيقة الشعارات التي تتبناها بعض الدول (المتقدمة) وبالخصوص أمريكا الشمالية، والتي تتغنى بضرورة حرية الشعوب، وحقوقها في المساواة والعدل... وقد أشار الكاتب «ألبرتو مورافيا» لتجربة بوتيرو في قوله إنها : «تحتوي على أشكال تلتحم بالصحة والرخاء وسعادة العيش، لكنها بالمقابل وفي نفس التجربة، تحمل إحساسا بالمعاناة الداخلية». كان غرض الفنان بوتيرو من هذه السلسلة الفنية، هو تأريخ هذا الحدث الواقعي، الذي لا يعتبر حكاية من نسج الخيال، بل هو حقيقة خيالية أصبحت متجاوزة في الحقبة الحالية.