هناك أشخاص يرعبهم ركوب الطائرة، بمجرد ما يأخذون مكانهم يتحولون إلى مؤمنين خاشعين، يرتلون القرآن والشهادتين ويستغفرون الحي القيوم الذي وسعت رحمته كل شيء، ويقسمون أن يقلعوا عن كل المعاصي لو وصلوا سالمين، قبل أن يسلموا أمرهم إلى خالق الأرض والسماوات. السماوات التي يخشون أن يواصلوا رحلتهم في اتجاهها، دون سابق ترتيب، كما حدث لركاب الآيرباص الألمانية A360، التي انتهت أنقاضا صغيرة في جبال الألب الفرنسية، وصعدت أرواح ركابها المائة والخمسين إلى الرفيق الأعلى. المشكلة أنه بمجرد ما تردد المضيفة: «سيداتي وسادتي لقد نزلنا، بحمد الله، في المطار الفلاني»، يختفي «الإيمان» ويشرع «المتخشعون» في التسابق على سحب الأمتعة والخروج قبل الآخرين، مستعيدين هواية «جمع الذنوب» التي أقسموا أن يتخلوا عنها عندما كانوا معلقين بين السماء والأرض! أعترف بأنني واحد ممن يحسون بمغص في البطن عندما يركبون الطائرة، لكنني لا أملك الشجاعة الكافية كي أحسم أمري مع السماء وأستعمل وسائل نقل أخرى، أفضل أن أقضي ساعات من الرعب على أيام من التعب والقرف بين القطارات والحافلات والبواخر؛ كما أعترف بأنني غبطت الكاتب فؤاد العروي عندما سمعته يوما يتحدث عن طلاقه البائن مع الطائرات التي لا يركبها أبدا، ولا شك أن للأمر علاقة بالمظلي الذي سقط قرب بيته في الثمانينيات وكتب عنه روايته الجميلة: «اِحذروا من المظليين»! يبدأ الخوف عندما تشرع المضيفة في تلاوة تعليمات السلامة. تتحدث بعفوية عن الكوارث المحتملة دون أن تشير إليها صراحة، تضع على وجهها «قناع الأوكسجين» الذي يجب على الركاب استعماله بذات الطريقة «إذا دعت الضرورة إلى ذلك»… «تسقط تلقائيا أحزمة السلامة» و»يضيء ممر الخروج»… «الخروجْ لايْن آلالة»؟… إذا «سقط القناع تلقائيا» أو اضطررت إلى «وضع الحزام»… معناه أنك ستغرق في البحر، سيأكلك السمك. يستحسن أن تغمض عينيك وتقرأ القرآن! وتبقى أكثر الأسفار إثارة للذعر، بالنسبة إلى من يعانون من «فوبيا التحليق»، هي الرحلات الداخلية التي تؤمنها طائرات صغيرة تحلق على علو منخفض، ولا تكف عن التململ بعنف، كأنها حافلة معلقة في الهواء، وعليك أن تمسك بأي شيء كي لا تصاب بالدوخة، في انتظار النزول. الواقع أن الطائرة كانت تخيف عددا أكبر من الركاب عندما كانت أسعارها في السماء. وقتها، كان معظم المهاجرين والطلاب في أوربا يعودون إلى البلاد بالسيارة أو الحافلة. ولعل من سوء حظ الطلاب المغاربة اليوم أنهم لم يجربوا تلك الرحلات «التاريخية» على متن حافلات طريفة مع ركاب أطرف يسمون «الزماكرية». ينطلق «الكار» من أحد «الكاراجات» في أنيير أو جونفيليي في اتجاه وجدة أو الناظور، عبر إسبانيا. عادة ما يلتقي الركاب باكرا في «الكاراج» ويكدسون حقائبهم في الحافلة، قبل أن يركبوا وفي أيديهم أكياس معبأة بالأكل، لتنطلق رحلة تستغرق ثلاثة أيام، كأنك في «غوانتانامو». كي لا تموت من التعب والملل والقرف، تجرب أن تملأ الساعات بالقراءة والموسيقى والنوم والأكل والثرثرة مع الجار… ولا تصل. عندما تفقد الرجاء تماما، تبدو لك «الجزيرة الخضراء» أو «طريفة»، وتعرف أن الأسوأ صار وراءك، قبل أن تركب الباخرة في اتجاه طنجة أو سبتة وسط زحامات لا تنتهي. بخلاف الحافلة، الطائرة اختراع مخيف رغم أنها تختصر المسافات. البعض يردد أنها أكثر وسائل النقل أمانا في العالم، لكن «الأمان» شيء و»الطمأنينة» شيء آخر. تجلس في مقعد وتشاهد نفسك وأنت ترتفع أميالا محترمة في السماء، على امتداد كيلومترات طويلة. السيارة والقطار و»الكار» والحمار… أكثر طمأنينة لأنها ملتصقة بالأرض، أما الطائرة فتصعد إلى أعلى، هناك حيث توجد «الجنة» و»جهنم» وحيث سنذهب جميعا بلا رجوع… كلما صعدنا أعلى نحس بالخوف. أحاول أن أتخيل اللحظات الأخيرة لركاب الطائرة التي سقطت في جبال الألب وأحس بالهلع. الخبراء يقولون إن الركاب يموتون بالسكتة القلبية في معظم الكوارث الجوية، بسبب سرعة السقوط أو نفاد الأوكسجين، قبل أن تتفرق أشلاؤهم شذر مذر. فرق الإنقاذ لم تجد إلا الرماد في ذرى الألب، والكارثة الأكبر أن «الآيرباص» المنكوبة في ملكية ألمانيا، البلد الأكثر مهارة في صناعة الطائرات. كيف نثق في الرحلات الجوية بعد اليوم؟ صدق الشاعر حين قال: «ناري ناري الطيارة دارتها بيّا».