كثيرا ما نسمع عن لوم المؤرخين للملك السعدي «أحمد المنصور» الذهبي واتهامه بالتقاعس عن طرد المحتلين من سبتة، وسائر الثغور المغربية المستعمرة، خاصة بعد موقعة وادي المخازن التي خاضها رفقة أخيه عبد المالك السعدي ضد جيش البرتغال وحلفائه، والتي تكللت بالنصر. مداد كثير أسيل حول قدرة السعديين في زمن المنصور الذهبي على استعادة سبتة وحول انشغال المنصور بالمعارك في أقاصي إفريقية لجلب الذهب، مما حال دون اتجاهه نحو الشمال وأجهض حلم المغاربة في استعادة سيادتهم على أراضيهم المحتلة، غير أن الوثائق التاريخية المتعلقة بتلك الحقبة ومراسلات المغرب مع ملوك أوربا والأتراك تميط اللثام عن محاولات جدية للمغرب لاستعادته ثغوره المحتلة ونجاحه في تحرير بعضها بل وسعيه لاستعادة الأندلس أيضا. جواسيس المغرب لم يغفل بلاط المنصور السعدي لحظة واحدة عما يجري من أحداث على الصعيد الدولي، وهكذا نجد أن المنصور قد بث عيونه وجواسيسه في كل الأقطار، وخاصة المعادية للمغرب، وتدل رسالة موجهة من العاهل المغربي إلى قاضي الجماعة بسوس على يقظة المغرب ومتابعته لأخبار أعدائه وتحينه للفرص من أجل الانقضاض على حامياتهم في الثغور المحتلة، وقد جاء في الرسالة التي حررها عبد العزيز الفشتالي بأمر من السلطان «تعين أن نساهمكم في كل بشرى ترد علينا وبشارة … وذلك أن عدو الدين جدد الله حزنه وقوض ركنه وهو طاغية قشتالة 000 سولت له نفسه تجهيز الحركة إلى أقطارها، ومنازلتها (ملكة أنجلترا) بجموعه في عقر دارها … واستنفد في الاحتفال الطارف والتليد، حتى تجمعت له من الأساطيل عمارة حافلة، مكث في جمعها أربعة أعوام تباعا استفرغ فيها غاية مقدوره وجهده 000 وصارت إلى بلاد أنكلطيرة تخوض نحوها الأمواج 000 حتى إذا دنوا منها وقد أخذت أساطيلها لحربهم الأهبة والاستعداد 000أرسل الله على أساطيل الطاغية من عنده ريحا أقحمتهم في بلاد العدو على غير نظام 000وأقبل تيار الهلكة على جموع قشتالة كافة «. إن خبر هلاك هذا الأسطول الضخم الذي استغرق تجهيزه أربعة أعوام كما تبين رسالة المنصور حفز المغاربة على التحرك بسرعة لتحرير ثغورهم، ويدل ما جاء في تتمة هذه الرسالة على أن العاهل المغربي يدعو المغاربة إلى استثمار ما حدث في (مجاهدة العدو)، خاصة وأن الإسبان منشغلون بحرب إنجلترا كما أن خسارة الأسطول أفقدتهم عاملا هاما كانوا يستندون عليه لتحقيق النصر، وعلاوة على ما تقدم تتحدث المصادر المغربية وخاصة «مناهل الصفا» للفشتالى عن حروب دامية بين الأوربيين (1562م: 159م) أرهقتهم واستنزفت قواهم، وعن مؤامرات مستعرة في البلاطات الأوربية وعن ظهور نزعات دينية جديدة عمقت الخلاف بين شرائح المجتمع الواحد. إن المغرب ولاشك قد وضع كل هذه المعطيات في الحسبان حين خطط لاستعادة أراضيه المغتصبة، كما وضع على رأس أولوياته استرجاع سبتة التي ألحقت بالتاج الإسباني منذ 1580م .فجمعُ المعلومات لم يكن هدفا في ذاته بل وسيلة يتوصل بها إلى غاية عظيمة سيطرت على وجدان المغاربة يومئذ. المغاربة ينتزعون سبتة لقد تنامى شعور المغاربة بأهمية استرجاع ثغورهم المحتلة وخاصة مدينة سبتة المعروفة بأهميتها الاستراتيجية، وبالإضافة إلى هذا كانت مأساة الموريسكيين ماثلة أمام أعينهم بسبب فظاعة ما تعرضوا له على أيدي الإسبان، وكانت فكرة نصرتهم ترد على خواطرهم وخاصة أولئك الذين ينحدرون من أصول موريسكية، والذين شغل بعضهم مناصب حساسة في بلاط المنصور، كل هذه العوامل ولا شك ستكون سببا مباشرا في اتجاه المغاربة نحو سبتة وفي تفكيرهم في استرجاع الأندلس نفسها، ومعلوم أن الحملات على الأندلس كانت تنطلق من سبتة، فمن البديهي لذلك أن تقترن رغبة استعادة الأندلس عند المغاربة بتحرير سبتة أولا، وبعد الكارثة التي حلت بالأسطول الإسباني ستعود فكرة استرجاع سبتة والثغور المحتلة لتطرح بقوة في البلاط السعدي وسيتحرك القائد أحمد النقسيس، تبعا لذلك، إليها عبر طرق لم يستعملها المسافرون من قبل لمفاجأة العدو، وسيتحمل مشاق جسيمة في انتزاع الصخور والأشجار لتمهيد الطريق لجنوده، وفي 11 دجنبر 1588م باغت النقسيس سبتة وتمكن من هزيمة حاميتها العسكرية ثم ساق معه عددا لا يحصى من الأسرى، فضلا عن غنائم المعركة . سيدخل النقسيس إلى فاس في 2 فبراير 1589م ليجد في استقباله حشودا هائلة من المغاربة تنتظره للاحتفال بانتصاره، وقد كان يوما مشهودا جلس فيه المنصور نفسه بالباب الجديد لاستقبال الجيش المغربي المظفر وتبارى الشعراء بين يديه في الثناء على أبطال المعركة ومن ذلك قول ابن علي الفشتالي: هذه سبتة تزف عروسا \ نحو ناديك في شباب وشيب وهي بشرى وأنت كفؤ اللواتي \ كلفت بعدها بفتح قريب وقول ابن السائح : أعرف الزهر فاح من الكمائم \ أم البشرى أتتنا بالغنائم.