الانتخابات على الأبواب، والكل يجيش إمكانياته وقدراته من أجل الكسب. إنهم يشحذون أسلحتهم، الشرعية وغير الشرعية، من أجل الاستحواذ على غنيمة الديمقراطية، تماما كما استحوذوا على غنائم كثيرة من قبل ولم يتركوا لنا غير الغبار. اهتمامنا بالانتخابات المقبلة بدأ قبل شهور، ولن ينتهي إلا بعد شهور، لكننا نبدو غير آبهين بأشياء كثيرة جدا، أشياء أهم بكثير من الانتخابات وأكثر عمقا بكثير من هذه الديمقراطية الحمقاء التي نتبجح بها، والتي توصل في كل مرة جيشا من الجراد لنهب الميزانيات. قبل بضعة أيام سمعنا بخبر خنق أم لأبنائها الثلاثة، واعتبرناها، مرة أخرى، مجرد جريمة عابرة واستثنائية، مع أن مجتمعنا صار مستعدا بالكامل لمثل هذه الجرائم، التي لم نكن نسمع بها في الماضي سوى في قصاصات الأخبار القادمة من قارات بعيدة. اليوم صرنا في قلب الخبر، وقتل أم لأطفالها الثلاثة جاب بلدان العالم، تماما كما كان حال أخبار أخرى كثيرة صار المغرب ينتجها حصريا، لأنه صار بلدا آيلا للانهيار النفسي والاجتماعي، وهذه هي الصورة التي لا نريد أن نراها جيدا، لأننا لو رأيناها فستفقأ عيوننا. وقبل بضعة أيام قفز إلى الواجهة خبر مرعب آخر يتعلق بثلاث حالات انتحار في شفشاون في يوم واحد. ثلاث فتيات قررن وضع حد لحياتهن في يوم واحد من دون أن يعرفن بعضهن البعض، فلا هن منتميات لجماعة سرية ولا هن من أتباع دين غامض ولا هن في مدينة كبيرة وصاخبة تقتل سكانها بالضغط والصخب. إنهن من شفشاون، واحدة من أجمل مدن المغرب وأكثرها هدوءا. وفي الأيام والشهور الماضية سمعنا أخبارا بلا حد عن أطفال انتحروا أو حاولوا الانتحار، وعن شيوخ فوق السبعين وضعوا حدا لحياتهم، وعن فتيات كثيرات تناولن سم الفئران ورحلن عن هذا العالم. سمعنا ونسمع عن جرائم مروعة، عن قتل الأب لابنه وخنق الولد لأمه وقتل الجار لأسرة بكاملها واغتصابات بالجملة في المدارس، وحتى الحضانات، وأشياء كثيرة أخرى تشير إلى أن المجتمع المغربي دخل متاهة حقيقية، متاهة تجره إلى مستقبل حالك. رغم كل ما جرى ويجري نتظاهر باللامبالاة، ونتحدث عن السياسة، وعن الانتخابات المقبلة، وعن اجتماعات الأحزاب، وعن إشاعات انتقال فلان من حزب إلى حزب، ونستمتع بالإشاعات والنميمة السياسية المتقدمة، دون أن ننتبه إلى أن كل السياسة والسياسيين في هذه البلاد لا يساوون جناح بعوضة أمام المخاطر النفسية والاجتماعية التي تهدد المغاربة. عندما يقترب موعد الانتخابات يتجند التلفزيون ووسائل الإعلام لمواكبة الحدث الذي يوصف دائما بأنه كثير الأهمية، مع أن الانتخابات في المغرب لم تكن يوما أكثر أهمية من مسرحية رديئة، ورغم ذلك فالجميع يتواطؤون على النفاق ويجعلون من الحبة قبة، فيتم عقد الندوات المتلفزة، ويتم استصدار قوانين جديدة، وتصاب وزارة الداخلية بإسهال في تصريحات التهديد والوعيد، لكن لا أحد يهتم عندما نسمع عن قتل أم لأبنائها الثلاثة أو انتحار ثلاث فتيات في يوم واحد بمدينة صغيرة أو انتحار طفل في العاشرة أو شيخ في السبعين. نحن مجتمع يستحق أن يسمى فعلا مجتمع النعامة. قبل بضعة أسابيع تتبع الناس مسلسلا اسمه «بويا عْمر»، هذا المشفى العشوائي الذي يُربط فيه المرضى بالسلاسل ويحرمون من أبسط شروط الحياة، مع أن بعضهم أكثر تعقلا من عدد كبير من عقلائنا. عندما تم إغلاق «بويا عمر» ونُقل نزلاؤه إلى مراكز صحية أخرى تنفسنا الصعداء وكأن معضلة الأمراض النفسية في المغرب ذهبت إلى غير رجعة، لكن دعونا نلقي نظرة على الأرقام المفجعة التي تدل على أن «بويا عِْمر» الحقيقي هو هذا البلد، الذي يسمونه أجمل بلد في العالم. في المغرب أزيد من ثمانية ملايين مصابون بالاكتئاب، وهو مرض يقود إلى الانتحار. ورقم ثمانية ملايين رهيب بكل ما في الكلمة من معنى، لأننا شعب عدده 34 مليونا فقط.. لا غير. الإحصائيات تقول أيضا إن مائتي ألف مغربي مصابون بالفصام، وهو مرض لا يؤثر فقط على حياة المصاب به، بل يؤثر كثيرا على محيط المريض وأسرته، لكن المصيبة أن الأغلبية الساحقة من المصابين بهذا المرض لا يدركون ذلك. في المغرب ملايين المغاربة يدمنون المخدرات، بل المخدرات الصلبة على وجه الخصوص، وهي تقود إما إلى القبر أو إلى فقدان العقل، وهناك ملايين آخرون يدمنون الخمور، وهناك وهناك وهناك.. لكننا نتظاهر بأننا مجتمع سليم، بينما نحن نمشي الهويْنى نحو الجحيم. السياسة المريضة يمكن إصلاحها بالدستور والقوانين، لكن كيف نصلح أمراضنا النفسية؟