قد تكون خطوة إقرار البطاقة الوطنية كوثيقة وحيدة للإدلاء بها في أول استحقاقات جماعية وجهوية تنظم بعد دستور 2011، هي أقوى تعديل سياسي عرفته مدونة الانتخابات، بعيدا عن حكاية عتبة الأصوات، والتقطيع الانتخابي. هي خطوة جريئة ظلت العديد من التنظيمات السياسية تطالب بها حماية للاستحقاقات من الفساد، الذي أضحى عنوانا كبيرا من عناوين مشهدنا السياسي، قبل أن تقتنع الدولة بجدواها وقيمتها. اليوم سيكون على الناخب أن يدلي بالبطاقة الوطنية وهو يلج مكتب التصويت، خصوصا أن أرقام وزارة الداخلية تخبر أن أكثر من تسعين في المائة من الكتلة الناخبة أضحت تتوفر اليوم على بطاقة وطنية بيومترية. لذلك لم يعد مقبولا ألا توظف في واحدة من مجالات الحياة السياسية وهي الانتخابات. هي خطوة ستعفي الكثيرين من واحد من أساليب الفساد الانتخابي، الذي عاشته التجربة المغربية منذ دخلت ما اصطلح عليه بالمسلسل الديمقراطي. فمنذ استحقاقات 1976، شكلت بطاقة الناخب أداة فعالة للتزوير. لقد كانت تصنع في معامل وزارة الداخلية الممتدة من المقدم والشيخ، إلى القائد والباشا ثم العامل. لذلك اعتبر الكثيرون وقتها أن الفوز بمقعد انتخابي سواء في جماعة محلية أو بمجلس النواب، لا يمكن أن يمر إلا عبر توفير ما يكفي من البطائق الانتخابية التي يتحكم في مصيرها خصوصا مقدم الحي. ولأن وزارة الداخلية ظلت تصنع الجماعات المحلية وتشكيلة مجلس النواب، فقد ظلت بالتالي توفر أعدادا كبيرة من بطائق الناخبين لتوظفها عند الحاجة. والحاجة هي توزيعها على المرشحين الذين تراهن على فوزهم، والذين يقومون بالتالي بتوزيعها على أولئك المستعدين للتصويت أكثر من مرة، خصوصا أن هذه البطائق تحمل في الغالب أسماء وهمية، أو أسماء موتى غادروا إلى دار البقاء، لكنهم ظلوا في نظر وزارة الداخلية حاضرين يجب أن يساهموا في العمليات الانتخابية. ولم يكن غريبا أن يحمل مرشح الإدارة، كما كان يوصف في أدبيات الانتخابات المزورة، خلال يوم التصويت أعدادا كبيرة من البطائق التي أنعم بها عليه لكي يوظفها في الوقت المناسب. ولأن التزوير الانتخابي صنع لنفسه محميات ورجال وسياسة، فقد صنع أيضا بعض المصطلحات الخاصة، ومنها مصطلح «الإنزال الانتخابي»، الذي يعني أن مرشح الإدارة تصنع له دائرته الخاصة من خلال تسجيل عدد من أصدقائه والمقربين منه، بالإضافة إلى عدد من الأسماء الوهمية التي يتم إنزالها في هذه الدائرة أو تلك. ظلت السلطة هي من يكلف «بصنع» بطائق الناخبين والتحكم فيها. وظل أعوانها هم من يوزعونها. غير أنه في أفق استحقاقات سنة 1997 ستضطر وزارة الداخلية للخضوع إلى ضغط بعض التنظيمات اليسارية التي ظلت تطالب بضرورة تصحيح وتشذيب اللوائح الانتخابية، بعد أن أصبح الحديث عن وجود أسماء موتى بهذه اللوائح قضية رأي عام. وكان المطلب هو أن ترفع وزارة الداخلية اليد على هذه البطائق حيث سيتولى رئيس المجلس الجماعي المنتخب، أو من ينوب عنه رئاسة ما سيسميه الوزارة الوصية باللجنة الإدارية، والتي تضم في عضويتها ممثلا عن السلطة المحلية بصفته نائبا للرئيس، وعددا من الأعضاء سواء المنتمين للمجلس الجماعي، أو الذين يقترحون من خارج المجلس. انطلقت عملية إعادة التسجيل وفق نظام محدد يفرض توفر شرط من شروط ثلاثة لكي يكون من حق هذا الناخب أن يسجل في دائرة انتخابية ما. أول هذه الشروط هو السكن في الدائرة، أو الازدياد بها كشرط ثان، أو أداء أي ضريبة في ترابها كشرط ثالث. شكلت هذه العملية، رغم تعقيداتها، نقطة ضوء. وتمت تنقية وتشذيب عدد من اللوائح الانتخابية لتكون نظيفة بشكل يضمن للاستحقاقات قيمتها. غير أن العملية لم تسلم من بعض حالات الإنزال هنا وهناك. وعلى الرغم من إعمال نظام اللائحة ابتداء من استحقاقات 2002 حيث قلت عمليات البيع والشراء التي ظلت تعرفها الاستحقاقات السابقة، إلا أن العارفين بتقنيات التزوير اخترعوا صيغة شراء بطائق الناخبين، حيث يمكن لحي أو دوار أن يفاوض من أجل بيع بطائق كل المسجلين في اللوائح الانتخابية لفائدة مرشح لكي يوظفها يوم الحسم، خصوصا أنها لا تحمل صور الناخبين، ويمكن لحاملها أن يصوت كل مرة في مكتب تصويت. اليوم تغيرت الصورة نسبيا مع دخول البطاقة الوطنية كشرط أساسي في العمليات الانتخابية مما سيقلص صور الفساد، التي راهن نظام الانتخابات المعتمد على اللائحة، على القطع معه دون أن يقوى على ذلك. غير أن هذا لن يكون كافيا لكي نضمن استحقاقات نزيهة وشفافة. فلا يزال شراء الأصوات حاضرا بقوة خصوصا في البوادي والمداشر ومحيط المدن الكبرى. ولا تزال الإدارة تمارس حيادها السلبي في الكثير من المناسبات. هي خطوة مهمة وجريئة أن تعوض البطاقة الوطنية، في الاستحقاقات، بطاقة الناخب. غير أنها خطوة لا تكفي من أجل أن نصبح غدا على استحقاقات نزيهة ونظيفة.