* يعزز الجاحظ ما ذهب إليه ابن حزم، إذ لا يرى أن يأخذ الحب والجمال مسار نقاش في الاستحسان والاستقباح العقليين، لأن " كل شيء لم يأت محرما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمباح مطلق.". ويسترسل بالاستدلال من واقع تاريخ العرب قائلا:" فلم يكن بين رجال العرب ونسائها حجاب، ولا كانوا يرضون من سقوط الحجاب بنظرة الفلتة ولا لحظة الخلسة، دون أن يجتمعوا على الحديث والمسامرة، ويزدوجوا في المناسمة (…) وكل ذلك بأعين الأولياء وحضور الأزواج، لا ينكرون ما ليس بمنكر إذا أمنوا المنكر". ويروي الجاحظ ما كان ينشب من مشكلات في مجالس المؤانسة، منها ما كان سيردي بجميل لولا دنو أخو بثينة وزوجها منهما واسترقا السمع فسمعا من كلامه لبثينة ما لا يدعو إلى الحرام والفاحشة، ف:"وثقا بغيبه وركنا إلى عفافه، وانصرفا عن قتله، وأباحاه النظر والمحادثة". ثم يفسر الجاحظ* سبب ضرب الحجاب على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم انطلاقا من واقع تاريخ العرب قائلا:" فلم يزل الرجال يتحدثون مع النساء، في الجاهلية والإسلام، حتى ضرب الحجاب على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة(…) ثم كانت الشرائف من النساء يقعدن للرجال للحديث، ولم يكن النظر من بعضهم إلى بعض عارا في الجاهلية ولا حراما في الإسلام". ثم يرد على من يريد أن يُنشأ حكما شرعيا في الموضوع معتبرا أن النظر والمؤانسة بين الرجال والنساء تقود إلى الفجور وتحمل على الفاحشة، قائلا:"قلنا إن الأحكام إنما تقع على ظاهر الأمور، ولم يكلف الله العباد الحكم على الباطن، والعمل على النيات". ويواصل ابن حزم تحليل مشاعر الحب موظفا منطق التعليل في منطق العشق قائلا: "أما العلة التي توقع الحب أبدا في أكثر على الصورة الحسنة".. وقد يعشق فؤاد المرء "غير النهاية في الجمال ولا الغاية في الكمال، ولا الموصوف بالبراعة والرشاقة، ثم إن سئل عن حجته في ذلك لم تقم له حجة". ويذكر الجاحظ* بعض العلل التي توجب استحكام العشق قائلا:" ثم لم نره ليكون مستحكما عند أول لقياه حتى يعقد ذلك الإلف، وتغرسه المواظبة في القلب(…) فإذا اشتمل على هذه العلل صار عشقا تاما". فكان ابن حزم* من المنتمين لحضارة الشرق، وممن اعترفوا بقيم الحب والجمال في وقت مبكر. لكن من الناس من يتهم هذه الحضارة بتغييب هاتين القيمتين. لذلك يستغرب أحد دارسي طوق الحمامة من بعض الباحثين في قولهم: "إننا نستبعد أن يكون العربي في تلك العصور قد عرف الجمال". ويستند في ذلك على ما افترضه الفيلسوف الإنجليزي (بوزنيكت Bosangnet) الذي قال: إنه "لم يستطع في تأريخه للجمال أن يتكلم عن الوعي الجمالي في الأمم الشرقية، لأنه لم يتبلور في صورة نظرية واضحة". لكن طوق الحمامة بتفصيلاته ومواقفه وشاعريته في مجال العشق والجمال يكفي لوحده أن يكون صورة نظرية للشرق في هذا الإطار، فالكتاب لم يفته ذكر الجمال الجسدي ببعض التفصيل. وسأعود إلى تناول ذلك بالرجوع أيضا إلى ما كتبه النويري* في "نهاية الارب" حيث يبهرنا بتناوله قيم الجمال حين يسترسل في وصف الإنسان ابتداء من الشعر والبشرة ومرورا بالنهود والأرداف وانتهاء بالساق والقدم. بقلم د. محمد بالدوان [email protected]