تفرّس النادل فيه مليا وهو يركن سيارته جانبا، آخذا مقعدا مُطِلاً على الشارع الضليل، ثم صاح: أحمد..أنت أحمد، قلت لنفسي لن يرتاد هذه المقهى مثلك، فعلى طول الشارع تصطف أفخم المطاعم والمقاهي، لكن ما يحمل إنسانا للمجيء إلى هذا المحل المتواضع سوى الشوق والحنين وبراءة الزمن الجميل!! رفع أحمد عينيه إلى رأس وقد اشتعل شَيْباً، بينما ارتفع صوت النادل: كوب قهوة بالحليب..هذه طلباتك يا أحمد منذ أزيد من ثلاثين سنة. ربت على كتفه وهمس: يا ألله لازالت ذاكرتك قوية! أيام لا تُنسى يا سيدي..كنتم أنتم تُجِدُّونَ وتمرحون..تبكون وتضحكون، ونحن سعداء بكم كأنكم أبناء لنا، لم يعد الزمان مثل الزمن.. نعم تَحَسَّنَتْ أحوال بعضكم، لكْنِ فيكُمْ شيء مَّا على ما لا يرام، بعضكم لم يكن يملك حتى ثمن كأس شاي، فتتضامنون مَعَهُ لأداء ثمنه، ومنكم الشيطان الذي كان يتملص من الأداء بمكر وكنا نعرف ذلك، أنَا أفْرَحُ لمَّا أراه على شاشة التلفاز أو أسمع عنه، هل لازال شيطانا ماكرا مُسْتغْفِلاً !! ثم أتى زمن الهوى، ورأيناكم مثنى مثنى. قل لي يا أحمد: تحسنت الظروف، فكيف حال الخاطِر؟ قال ذلك وانصرف لبعض الوقت، وبَقَيْتَ أنْتَ وَحْدَكَ، ها هنا كل ذرة تَنْبُضُ بماض جميل. يقول النادل: نعم، تحسنت الأحوال، إذ كُنَّا في السابق سيارة آدمية، من نوع «رونو إحدى عشرة»، عَجَلاتُهَا الأرجل، وكانت أحلامنا عَرَبَةً يَدَويَّةً يقودها العقل والطموح والأمل حتى لا نسقط في الانحراف!! تسألني أيها الرجل الطيب عن الخَاطِر: جدران شاهقة.. قضاء أو قدر، شاء ما شاء، لم يقو البعض منا على الركوض كالفرس الجامحة، فاختار الطريق القصير، حيث وجدت الأنانية والمصلحة الخاصة سبيلا إلى الأنفس فَتَمَلكَتْهَا وتكسرت الكؤوس. هل يملك حسن الحال أن يُرمّم الشظايا؟ ها هو النادل يأتي إليك بوجهه البشوش: سَألتَهُ: لو يعود الزمن الذي مضى، اليوم، ومشاعر الأمس! الأسباب مُتاحة، لكن مشاعر الضجر والملل والإحباط أخذت طريقها إلينا!! لا يا أحمد: هذه حكمة الحياة..الرضا والسعادة والصحة والعافية كنوز لا تفنى. أمَّا ما مضى، فقد مضى!! وافق أحمد على ما قال النادل مبتسما، وهو يستعد للمضي، قبّله النادل بحرارة واستجداه أن يعود. وهو يركب السيارة..كان صوت أم كلثوم يغني بشجن: فَاتْ المِيعَادَ..وبقينا بْعَاد!! قال أحمد في نفسه: فات الميعاد.. حرك محرك السيارة واختفى!!