أطلقت جامعة بنسلفانيا الأسبوع الماضي تقريرها الجديد [2014] حول تصنيف مراكز الفكر ومؤسسات المجتمع المدني في العالم، وهو التقليد الذي دأبت على القيام به بانتظام منذ سنة 2006. للإشارة، يشمل التقرير حوالي سبعة آلاف مركز بحث [6618] على امتداد المعمور، ويعتمد في التقييم معايير دقيقة، أبرزها: «الاستقلال البحثي والفكري، السمعة الأكاديمية للمركز والعاملين فيه، وحجم جودة وسمعة إنتاجه الأكاديمي المنشور ونشاطه البحثي، فضلا عن تأثيره على السياسات العامة وقدرته على تجسير الفجوة بين النشاط البحثي والفكري ودوائر صنع القرار من ناحية، وبينها وبين المجتمع من ناحية ثانية». أما المشاركون في إعداد تقرير هذا العام، فتجاوزوا العشرين ألفا، من صحافيين، وصناع قرار، ومانحين من القطاعين العام والخاص، وبيوت خبرة، ومتخصصين إقليميين ودوليين. يُشار، أيضا، إلى أن التقرير درج على تصنيف مراكز الفكر الأكثر تأثيرا في العالم إلى أربع مجموعات رئيسة، كل منها لها مؤشراتها الخاصة، ومن ضمنها مراكز الفكر المناطقية وعددها عشر مناطق، منها: منطقة «المينا»، أي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. أما سُبل تدويله فسيترجم التقرير إلى عشرين لغة في العالم. نترك للقارئ الكريم متعة تصفح نص التقرير بكامله، ونسلط الضوء، في هذا العمود، على موقع منطقتنا في تصنيف تقرير 2014. فمن جهة، جاءت المشاركة الإجمالية للمنطقة العربية في تقرير هذا العام متواضعة، إن لم نقل ضعيفة، مقارنة مع مناطق كثيرة في العالم، حيث لم تتجاوز نسبة 8 % من إجمالي المراكز المرشحة للتصنيف. أما تصنيفنا في السلم Rank، فباستثناء ترتيب «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» المصري في الدرجة 51، لا وجود لنا في كوكبة المائة والخمسين مركزا الأولى في العالم. وإذا كان طبيعيا أن تتصدر مراكز الولاياتالمتحدةالأمريكية هذه المجموعة الريادية من المراكز، بمعية دول متقدمة مثل بريطانيا، والسويد، وألمانيا، وبلجيكا، وفرنسا وإيطاليا..فاللافت صعود دول صغيرة جغرافيا وديمغرافيا من قبيل كوريا الجنوبية، وسنغفورة، أو بلاد محدودة التقدم مثل غانا وكينيا، ناهيك عن أقطار أخذت طريقها إلى الريادة، كالهند، والصين، وأندونيسيا، وجنوب أفريقيا، والبرازيل.. وإذا عدنا إلى ترتيب مراكز منطقة المينا، أي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وعددها خمسة وخمسون، فنلاحظ تصدر الكيان الإسرائيلي بأحد عشرة مركزا، تليه مصر بعشرة، ثم تركيا بخمسة، والمغرب بأربعة، ولبنان وقطر والإمارات بثلاثة، والأردن والكويت بمركزين. أما باقي أقطار المنطقة، بما فيها إيران، فكان نصيبها مركز واحد. وحدها بعض الدول لم يكن لها وجود في الترتيب، من قبيل الجزائر وموريتانيا، والعراق، وسوريا والبحرين، والسودان. أما إذا نظرنا إلى ترتيب مراكز البحث من زاوية الدفاع والأمن القومي، فسنجد أن ثمة تقدما في التصنيف العالمي لبعض المراكز العربية، من قبيل «المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، المؤسَّس منذ عامين [2012]، والمصنَّف في الرتبة الثامنة عشر، ومركز الأهرام في المرتبة الثالثة والعشرين. أما مركز دراسات الوحدة العربية، وعلى الرغم من ترتيبه في الدرجة الثانية والعشرين في منطقة المينا، فقد جاء في الدرجة السبعين من أصل 85 من زاوية تصنيفه في سلم الإنتاج البحثي في مجال الدفاع والأمن القومي. لاشك أن إمعان النظر في مختلف تصنيفات تقارير مراكز الفكر ومؤسسات المجتمع المدني، بما فيه تقرير هذا العام [2014]، يؤكد حقيقة وجود علاقة وطيدة بين حال صحة البلد وأوضاع مراكزه، لاسيما من زوايا الاستقلال الأكاديمي، ومناخ الحرية، وجسور الثقة بين منتجي الأفكار وصناع القرارات والسياسات، وشيوع ثقافة التقييم وإعادة التقييم والمساءلة، ودعم ثقافة الفريق، أي العمل العلمي الجماعي والمؤسسي.. ودون ذلك، لن تستطيع جدلية البحث العلمي والتراكم الفكري الاستقامة والاستمرار، والأهم لن تتمكن من إنجاز رسالتها، أي التأثير في السياسات وتغيير أوضاع الناس نحو الأفضل.