لم أشاهد من فيلم «الزين اللي فيك» للمخرج نبيل عيوش سوى تلك المقاطع التي تم بثها على سبيل الترويج. ولا أخفيك أن الطابع «النيء» لتلك اللقطات (على كل حال هكذا أحسست بها) أزعجني وعمّق ذلك التوتر بين «أنا» الذي يعي جيدا أن كل ما تضمنته تلك الدقائق الخمس واقع لا يرتفع، وبين «أنا» الآخر الكامن، والمثقل بالكثير من معتقدات مجتمع يفضل إخفاء أعطابه بدل علاجها، مثل أمهاتنا اللواتي يفضلن آلامهن ويتظاهرن بالعافية لأنهن يخفن الذهاب إلى الطبيب.. بين «أنا» الذي يقف على نفاق مجتمعه مثل سباح يراقب نهر جارف، وبين «الأنا» الآخر الذي يخشى الوقوف في وجه هذا النهر.. بين «أنا» الذي يترفع صادقا عن إدانة العاملات في الجنس في نقاشات المقاهي والبارات، وبين «الأنا» الآخر الذي تربى على اعتبار العاهرات كائنات دونية لا ضير في نبذهن. أحب التسلح بكل ما أملك من شجاعة وانضباط والاصطفاف، كجندي متحمس، إلى جانب «الأنا» الأول ضد الثاني، وأقف ضد المنع الذي تعرض له «الزين اللي فيك»، لأنني أعتبر الرقابة والمنع في الإبداع بكل أصنافه مثل سيف في يد ضعيف خائف تائه لا يمكنه إلا أن يتسبب لنفسه ولمن حوله في جروح قد تكون قاتلة. والمنع، كذلك، يجسد في تقديري تلك السلطة الأبوية التي منحتها هذه الحكومة لنفسها، لردع كل ما يزعجها دون أي نقاش، ظنا منها أن الحظر هو الدرع الواقي من «الأخطار» التي تراها مُحدقة بالمجتمع، مطمئنة لما تعتبره موافقة من هذا المجتمع، مثل أب محافظ يكتفي بإحكام غلق الأبواب والنوافذ على بناته، مطمئنا إلى دعم الزوجة والأولاد، ناسيا بأن للبيت سطح مفتوح على السماء الممتدة إلى ما لانهاية. لعل أحد الأسباب التي قام عليها المنع هو الكلام النيء العاري من أي مكياج الوارد في الفيلم على لسان فتيات. فالمجتمع المغربي يعتبر هذا المعجم الحاد خاصا بالذكور، ولا يقبل أن تتجرأ الأنثى وتتحداه باستخدامه، فهو يقبل أن يستعمله الذكور (أفلام أخرى لم تتعرض للمنع رغم أنها مؤثثة بهذا المعجم النيء لأنه كان مستخدما من طرف الذكور)، ولا يقبل من الأنثى سوى أن تكون موضوعا لمثل هذا الكلام. لقد كشف هذا المنع مرة أخرى أن المجتمع المغربي لم يبلغ بعد «مرحلة المرآة» التي تحدث عنها عالم النفس الفرنسي «جاك لاكان»، أي تلك المرحلة التي يواجه فيها الطفل نفسه لأول مرة في المرأة فيظن أنه كائن آخر قبل أن يعي أن ذاك الذي أمامه ليس سوى هو نفسه ويعي بجسده وب»أناه» المستقل عن أمه. وفي تقديري، فالمجتمع المغربي مازال في بداية «مرحلة المرآة» هذه، ويعتقد أن الذي أمامه بكل أعطابه كائن آخر، فيسارع إلى إلغائه ودفعه إلى الظل. والحال أنه طالما لم يتعرف على نفسه ويقبل بها بكل أعطابها، فلن ينتقل إلى مراحل النمو التالية وسيظل قاصرا. لقد بُني قرار المنع على معايير أخلاقية والحال أن هناك «عدة أخلاق» (plusieurs morales) كما قال الشاعر الفرنسي الكبير شارل بودلير. ويضيف، في ورقة كتبها للدفاع عن نفسه أثناء محاكمته بسبب ديوانه الشهير: «أزهار الألم»، أن هناك «الأخلاق الإيجابية والعملية (positive et pratique) التي يجب أن يخضع لها الجميع»، وهناك «أخلاق الفنون وهي مختلفة تماما»، ولا يمكن التعامل معها مثل الأولى. فهي تحرج الأخلاق المجتمعية مثلما تحرجنا أسئلة الأطفال، وتفضحها وتكشف أن ذلك «الأنا» الكامن المتربص الساهر على حماية نفاق المجتمع قد فاته أن «يكون ملاكا»، كما قال محمد شكري مرة.