حدثان اثنان أكدا لي صدق إحساسي بأنَّ حلقات مسلسل تزجية الوقت مستمرة بِهِمَّةٍ عالية، وهما معا سَيُقنِعَان زَميلتي القاضية التي سألتني قائلة: «لماذا لم يعد المنتدى المغربي للقضاة الباحثين ينظم ندواته كالمعتاد؟ ولماذا أنت شخصيا لم تعد تستجيب، لا للدعوات التي توجه إليك، ولا لأشكال التجمعات التي تَلْتَفُّ حولهَا الجمعيات المهنية» ؟!! أما الحدث الأول فقد أعلنت عنه الصحف لمّا أخبرت بموقف الأغلبية البرلمانية من استقلال النيابة العامة عن وزارة العدل. لم يشغلني الموقف لأنني لا أخالفه بشروط وأسباب أوضَحْتُهَا في مقالاتي، من بينها أن يكون وزير العدل قاضيا مكلفا بمهمة وزير، وأن تعود وزارة العدل إلى وزارة السيادة، بقدر ما تأسفت على اطمئنان الجمعيات المهنية للقضاة التي بشرت زملاءها بأنها أقنعت البرلمانيين بصواب رأيها في الموضوع!! نسي المطمئنون أن القضاة لم يُستشاروا قط، إبان مناقشة مسودة الدستور في شق المواد التي تعرض للسلطة القضائية، فإذا كانت هذه المواد قد دخلت حيز التنفيذ على علاَّتِهَا، فإن زمن إعادة صياغتها وانتشالها من التمويه والغموض الذي اكتنفها يَبْقى من باب المستحيلات!! وقد قلت في معرض مناقشة رأي الأستاذ الفاضل عبد السلام العيماني حول علاقة النيابة العامة بوزير العدل، إن الدستور حافظ على دور بطولة هذه المؤسسة بثبات في المشهد القضائي، كما حافظ على سيناريوهات أخرى ساعدت على إخراج فِيلْم مشروعي القانونين التنظيميين للسلطة القضائية والقانون الأساسي للقضاة بالحلة الباهتة التي ظهرا بها!! ولو أردنا أمثلة على المقتضيات الدستورية التي طالها الغموض والإبهام لذكرنا نص المادة 110 التي لم تحدد معالم السلطة التي يتبع لها قاضي النيابة العامة، فهانَ على الشرّاح ومنهم الأغلبية البرلمانية أن يقولوا إنها وزير العدل، ولذكرنا المادة 119 منه أيضا، والتي جعلت الرئيس الأول بمحكمة النقض رئيسا منتدبا للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، فهانَ على الشراح كذلك، أن يخرقوا القانون علنا ليرخصوا لمن هو طرف في الدعوى التأديبية للقضاة أن ترفع إليه دعاواهم، وبرر المغامرون بهذا الرأي خطأهم بِمَا لا يقبله المنطق السليم. وأجازت المادة 178 من الدستور استمرار المجلس الأعلى بتركيبته الحالية ممارسة صلاحياته إلى أن يتم تنصيب المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ولمّا كان الأصل أن تجري الانتخابات بانتهاء المدة، فسّر الشّارِحون ومنهم قضاة أن الاستمرار ينصرف حتى إلى الأَشخاص، وأن إيماءة ما دفعت في هذا الاتجاه، وهو خرق للمرجعية التقنية الدستورية في دولة المؤسسات التي نزعم أننا أسسناها، ولو أضفت إلى هذه الخليط حديث الدستور عن تمثيلية النساء في تركيبة المجلس الأعلى للسلطة القضائية، والحال أن الهيئة الناخبة شريحة من القضاة لا تميز بين ذكر وأنثى في المسؤولية، وقد تنتخب أعضاء المجلس برمتهم من النساء متى كن أكفاء لتأكد لنا أن الدستور تعامل مع القضاة مثلما يتعامل المتعاطون مع العوام في الانتخابات الجماعية والتشريعية!! وأما الحدث الثاني وهو يصب في الخانة نفسها، فعبر عنه الأستاذ الكبير عبد اللطيف بوعشرين لمّا سَمّانَا نحن القضاة بالدُّخَلاَء. والحق أقول: «لو سمعت هذا القول من غير قائله لاعتبرته صادراً ممّن لا يفقه مطلقا». ما معنى كلمة قاض وما يُمَثِلَّهُ القاضي من مَكَانَة في المجتمعات التي تحترمه. فلمّا علمت بالقائل وأنا أعرف قيمته الفكرية جيدا، أسْألَهُ: «أمام من كان يقف طيلة مسيرة المحاماة التي يمارسها؟ وأمام من أدّى اليمين؟ وعلى يد من تتلمذ من القضاة؟ ومن أصدر الاجتهادات القضائية التي يَسَتظْهِرُ بها؟ وما مقياس الفرح الذي خامره وهو يجد القضاء يحتكم إلى ميزان العدل في القضايا التي ينوب فيها؟ وما مقياس الأسف والحيرة التي تنتابه عندما لا يُطَّبّقُ القاضي القانون؟» قلب الأمين العام لاتحاد المحامين العرب مبدأ «لا يجبر الدخيل على الأصيل»، فقال ما قال على أنني أجده في ما قاله صادقا مع نفسه، فلعله راهن على هذه المرحلة التي خَبَا فيها نجم القضاء، ولم تعد مطرقة المِنَصَّة تَصُمُّ الآذان، فلم يَجِد من يقول له علنا: «إنك على حق، فمصير القضاء والقضاة ظل ولازال بيد من ليس بقاض، ولمْ نَقُل عنه دخيلا، وقد غَزَلَ وزيرُ عَدل سَابِق هذا المُعْطى عمليا عندما سمح لصديقه الكاتب العام أن يحضر أشغال المجلس الأعلى للقضاء وهو ليس بقاض، بل إن الدستور ذاته في المادة 115 منه أعطى نصيب الأسد في تركيبة المجلس الأعلى للسلطة القضائية لغير القضاة، ولعل التفسير نفسه الذي عبّرت عنه الأغلبية البرلمانية بخصوص كرسي وزير العدل في دار النيابة العامة هو نفسه الذي سوف يُضيف إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية خمس شخصيات مشهود لها بالكفاءة والتجرد وسيادة القانون ! فالمؤكد أنَّهُ لن يكون هؤلاء قضاة، فمنتخب القضاة يقف عند مشارف الوسيط الذي هُو ليس بقاض، وسترى ذلك قريبا!!» أَبَعدَ كل هذا يبقى لنا كجمعيات مهنية دور، تقول القاضية التي لزمت عدم الحضور ولم تشارك في الائتلاف. وأقول لها منذ زمن ونحن نقترح على السيد وزير العدل ما نراه صوابا، فلا يراه هو كذلك، ومنذ زمن ونحن نقول إن القضاة الذين يزكون الوضع المائل للسلطة القضائية هم أنفسهم من يناضلون ضد ما اقترحوه، وهم ذاتهم من يوشوشون سريا في الآذان للإطاحة بزيد أو عمرو، ولَكِ أن تتأكدي من ذلك إن لم تقتد برأيي. ألم يسمع كبار القضاة ما قاله عبد اللطيف بوعشرين. وهل حرّك أحدهم ساكنا؟ ألم تضحك الأغلبية البرلمانية على الذقون عندما أوهمت القضاة أنها معهم في هذا الشأن أو ذاك؟ أليس أعداء الجمعيات المهنية الحديثة هم القضاة وليس وزير العدل؟ ألم يقترحوا عليه النصاب العددي لأنهم كُثْرٌ، فآمن بما قالوا إلى أن أقنعناه بأن «العدَّ لا يكون إلاّ في البضائع»، فتحَفَظّ عن الرأي الأول!! ألا يُسيِّرُ أشغالنا ويُرقِّينا وَيُؤدِّبُنَا ويَطَّلعُ على أوضاعنا المهنية من ليسوا بقضاة؟ أقُلْنَا عنهم دخلاء كما فعل عضو اتحاد المحامين العرب؟ هل لدينا قاضي برلماني؟ ومن يمثل القضاة ويدود عنهم في هذه المحافل!! أنا لاَ أسْتَجيبُ لعدة دعوات. صحيح أنني برمجت مجموعة من اللقاءات لمناقشة مشاريع قوانين لاحقة، لكنني ألغيتها، خصوصا عندما وجدتُ نفسي كمؤذني مَالْطَا، ووجدت زملائي القضاة يحتمون بخيوط العنكبوت، فتركت لهم الميدان. أَبعَدَ كل هذا تسألين: «لماذا هذا السكوت»؟ قُضاتنا يا سيدتي ينطبق عليهم قول الشاعر: مَنْ يَهُن يَسْهلُ الهَوَانُ عَليْهِ مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلاَمُ رئيس المنتدى المغربي للقضاة الباحثين [email protected]