وقف المهاتما غاندي أمام هيئة الحكم محاميا يدافع عن الناس، تصبب العرق من جبينه وتلعثم لسانه، فاقتنع أنه لن ينجح خطيبا، لكنه استطاع أن يبتكر من خجله وصمته سلاح مقاطعة صنعت منه زعيما سياسيا خالدا. وقديما دأب شعراء الجاهلية أثناء إلقاء قصائدهم أمام الملوك والولاة أن يفتعلوا خطأ ما في القافية أو الرَّوي حتى لا يدب الملل إلى السامعين، فيستسلمون إلى النوم، وينتبهون إلى الشاعر. عندما تُتاح لي فرصة متابعة درس حسني ما عبر التلفاز أجِدُ عَيْنَي الخطيب متسمرة على الورق الذي يتهجاه حرفيا، فلا يكاد يرفعهما عَنْهُ، وتجدني أشفق على ما يعانيه السامعون من مشقة. تستحضِرُ ذاكرتي المثالين أعلاه لأقول: «تتاح بين الرَّمَضَانَيْنِ الفرصة لمن اختير لإلقاء الدرس الحسني كي يستعد لهذه الساعة الزَّمنية، فلو أنه استظهر كل يوم سطرا واحدا مما يلقيه على الناس، لغرَّد مَحْفُوظَتَهُ كطائر الحسون، ولما اضطر أن يدير رأسه مع تقليب كل ورقة». وأضيف أيضا: «نحن أمام درس ولسنا أمام ندوة أو محاضرة أو تلاوة بلاغ ما. بمعنى أن دور الخطيب ينحصر، أساسا، في إفادة الحاضرين في دينهم ودنياهم، مستعملا كل أدوات الإقناع الممكنة من صوت جَهْوَري، وحركات اليدين وضرب الأمثلة، مثل ما يفعل رجل المسرح عندما ينزل من الركح إلى حيث يجلس المتفرجون ليشاركونه فَنَّهُ الرفيع!» كما يجولُ بخاطري طينة من الخطباء المفوّهين الذين كانت المنابر تتزلزل تحت أقدامهم، والذين لا يحملون بين أيديهم ورقة ولا يحزنون، بل يفكرون بالألفاظ، ويُسهبون في الشرح المؤثَّث بالوقائع والمستملحات، وهم إضافة إلى ذلك، يملكون صوتا رخيما يَنْفُذ إلى أعماق الأفئدة والعقول. بالمسجد الأعظم بمدينة سلا جلسنا بين يدي الفقيه محمد المريني والفقيه بنعاشر والفقيه مصطفى النجار، كما جلس غيرنا إلى كبار الفقهاء بمساجد المملكة، وكان الفقيه بين الفينة والأخرى يروي مستملحة أو يقرأ بيت شعر أو ينبه نائما يُسمع شخيره من شدة كدح اليوم، وكنا نقلد طريقتهم في الخطابة، فأقف أمام المرآة أو أضع الدمى أمامي وأقرأ عليها ما تيسّر من محفوظاتي! ملأنا المُدرَّجَ عن آخره ونحن ننصت بالساعات لدروس أساتذتنا: عبدالرحمن القادري، أحمد الخمليشي، محمد السماحي، خالد عيد، مأمون الكزبوي، وأحمد شكري السباعي، موسى عبود والعلوي العبدلاوي، ولم يغالبنا النُّعاس. الخطابة فن له ضوابط، ولازالت كلمات علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) والحجاج بن يوسف الثقفي وطارق بن زياد تَرِنّ في الآذان، كما استطاع الإمام متْولي شَعْرَاوي أن يشد إليه السامعين استفادة واستمتاعا وإيمانا! ليس الدرس الحسني إجراءً تعبّديا يتبع طقوس شهر رمضان من مدفع وسحور وطبل ومزمار! وليس تزجية للوقت في انتظار آذان المغرب! بل هو نافذة ينبغي أن يُطِلَّ من خلالها السامعون والمتتبعون على الفكر الرصين، والإقناع المبين، وأن يزن الواقف أمامهم بميزان العلم ورجاله، وأن يرأف بهم، فلا يصبح آلة تسجيل أو قرصا مدمجا له بداية ونهاية، وألا يُشغله عما يلقيه بين يدي السامعين مأرب دنيوي زائل، بقدر ما تشغله رسالة العالِم! عندما أيقن المهاتما غاندي أنه لن يصير محاميا، رأف بالقضاة والموكّلين، ووجد ذاته في زعامة أخرى. وعندما لمس شاعر المعلقات درجة القنوط والملل والنّعاس التي تسبّب فيها، ابتكر وسيلة ذكية لِيَشُدَّ الناس إليه، فلو اقتدينا في الدروس الحسنية بهذا السلوك، وأحْسَنّا الاختيار، لتَرَكَ المنبر من لا قدرة له على الخطابة، ولَشَدَّ خَطِيبنا الأسماع، وَلارتَفَعَ أذان المغرب ونحن مَا نزال أمام الخطيب سَامِعين لاَ نِيّاما. رئيس المنتدى المغربي للقضاة الباحثين [email protected]