أراد مكر الصدفة أن يجمعني ب»علي لمرابط» ثلاثة أشياء: الانتماء إلى هذه الجغرافيا وتشابه في الاسم العائلي والتورط (بالنسبة إليّ على الأقل) في حرفة الصحافة. عدا هذه التقاطعات الثلاثة، أحس أننا لا نلتقي في الكثير من الأمور الأخرى، فهو من شمال البلاد وأنا أصلي من هناك، من سوس، وراء ذلك الخط الذي خطه ليوطي وقسم به المغرب بين نافع وغير نافع؛ وأراؤه السياسية ليست هي أرائي، بل حتى تصوره للممارسة الصحافية لا أنسجم معه كثيرا. مع ذلك لا أخفيك أن ما تعرض له أيقظ هنا في صدري ذلك الخوف الذي اعتراني وأنا أكتشف قبل سنين عديدة ما جرى ل»جوزيف ك» في قصة «المحاكمة» ل»فرانز كافكا». تخيلت نفسي خارج الجغرافيا، ولا وجود لي، فقط لأن عون سلطة بسيط أو متوسط أو أعلى من ذلك بقليل رفض وضع توقيعه على وثيقة إدارية بسيطة. ماذا أفعل؟ هل أذهب إلى عاصمة عالمية لأقف على شفا الموت؟ هل أقاضي العون البسيط أو المتوسط أو الاعلى قليلا؟ هل أقبل بالوضع الذي أراده لي هذا العون وأقبل العيش ككائن خرافي، موجود وغير موجود في الآن ذاته؟ حقا لا أملك جوابا. فقط، أحسست، بعد إعلان الرجل عن وقف إضرابه عن الطعام الذي دام أكثر من شهر، بتلك الراحة الغريزية التي تغمر المصاب بالربو بعد مرور الأزمة التي أنهكته، تلك الراحة المشوبة دوما بالخوف من الاختناق القادم. إذ أوقف لمرابط إمساكه الاحتجاجي عن الأكل في إطار صفقة تنص على أن يحصل على جواز سفر مغربي في برشلونة بعد أن يتعافى قليلا، على أن يدخل إلى البلاد ويقضي ثلاثة أشهر في سكنه ليحصل بعد ذلك، على شهادة السكنى التي تخول له تجديد وثائقه الأخرى ليخرج بالتالي من حالة «اللاوجود» ويصير كائنا مرئيا. وهذه الفترة الزمنية المقبلة هي التي تغلفني بهذا الخوف الشفيف من تدحرج الأمور إلى قعر البئر من جديد. فالسلطة المغربية تعاملت مع قضية لمرابط بالطريقة التي تتقنها أكثر من غيرها، وهي «تدبير اللحظة»، فما كان يهمها في الوقت الحاضر طبعا هو تفادي أي عواقب قد تتولد وتكبر، مثل نبتة ضارة، من إصرار المضرب عن الطعام على المضي إلى النهاية، وفي بلد أجنبي، بل وفي قلب قارة لها حساسية كبيرة تجاه كل ما يمس بحياة الآدمي. ولا يستبعد أن تهب الريح بأي قشة مهما كانت خفيفة فتوقف عجلة «الاتفاق» وتدفع المعني بالأمر إلى الوقوف مرة أخرى على شفا الموت. إن حالة لمرابط من تلك الومضات التي تنبهنا إلى أننا نعيش في ما سمّاه محمود درويش مرة «الزمن الأجوف»، ذلك الزمن الذي لا يحدث فيه أي تغيير. فرغم أن رئيس الدولة، الذي احتفل المغاربة بالذكرى 16 لتسلمه مقاليد الحكم، دشن عهده بالتأكيد على «المفهوم الجديد للسلطة» القائم على بناء دول الحق والقانون التي لا تلغي وجود الكائن المغربي بجرة قلم من عون سلطة بسيط أو متوسط أو أعلى قليلا، فإن من يركز النظر يكتشف أن الإدارة المغربية لها سلطة واسعة جدا على هذا الكائن، إذ تملك بين يديها وجوده كله ويمكنها أن تمنحه إياه وتسحبه منه في أي وقت. فهي تجعل الوطن، كما قال الشاعر المغربي سعد سرحان، «أبا صارما يعنف أبناءه كلما تأخروا» أو كلما أزعجوه فيحرمهم من اللجوء إلى وبر خيمته بجرة قلم من عون بسيط أو متوسط أو أعلى قليلا.