عاش محمد العربي المساري اغترابه بمرح؛ كان تطوانيا في الرباط، و"إصلاحيا" (حزب الإصلاح الوطني) داخل حزب الاستقلال. وإسبانيَ الذوق، عربيَ الأفق، في وسط فرنكفوني شرس. ومغربيا يعرف كيف يطرق باب جار إسباني ينظر بتعال إلى جنوبه. مرة، ونحن في الطريق من العرائش إلى الرباط، توقفنا للاستراحة في إحدى محطات الطريق السيار، فتوجه السي العربي إلى عامل النظافة، وقال ممازحا متقصدا: "لن أمنحك واجب استعمال الحمام، لأنك تكتب "toilette" بدل دورة مياه"، فأجابه الرجل: "و لاباس أ الشريف منين قدرنا نكتبو مسجد بالعربية فهاذ السطاسيون.. راهم كانو دايرين لينا بلاكة فيها "mosquée" بالفرنسوية". كان السي العربي يتحدث إلى الرجل الغرباوي بلكنة تطوانية معتقة، فبادرته ونحن نغادر: كيف استطعت أن تحافظ، خلال كل هذه السنين التي قضيتها في الرباط، على تطوانيتك الخالصة، فابتسم وحكى لي كيف أن امحمد بوستة، عندما كان يلتقي به في اجتماعات اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، كان يمازحه بالقول: "السي العربي.. نهار الجّمْعة.. ياك نهار الجّمْعة" (بتفخيم الجيم على طريقة الشماليين والمشارقة) لامزا إلى لكنة المساري الشمالية. لم ينكفئ السي العربي، كما فعل العديد من الوطنيين الشماليين، الذين اكتفوا بنعل القدر الذي ابتلع حزبهم "الإصلاح الوطني" حين أدمجه في حزب الاستقلال، بل أشعل شمعة ذلك الحزب الخلاق، السبَّاق إلى الوطنية والانفتاح، وحافظ على بذرته داخل حزب الاستقلال، فكان الوريث الشرعي للحاج عبد السلام بنونة وعبد الخالق الطريس. وعندما أصبح حزب الاستقلال، على عهد عباس الفاسي، يضيق بأفكار علال الفاسي وعبد الخالق الطريس.. انسحب السي العربي، بهدوء، من لجنته التنفيذية. سألته مرة عن الموضوع، فأجاب: أنا لم أعد أتفق مع توجهات الحزب فلماذا أستمر في حضور اجتماعات لجنته التنفيذية. أما وقد تحول حزب الاستقلال، مؤخرا، إلى "منجم" للسفسطة والتهريج؛ فقد قاطع السي العربي اجتماعات مجلسه الوطني، الذي يفترض أنه كان عضوا فيه بقانون الأقدمية داخل اللجنة التنفيذية للحزب. لم يكن السي العربي كاثوليكيا في انتمائه السياسي، فعندما يصيب الحزب عُسر في الفكر يترجل منه إلى غيره أو يستكين إلى نفسه وفكره، وقليلون هم الذين يعرفون أن المساري كان مناضلا شوريا قبل أن ينزل من "جمل" بلحسن الوزاني ويرجح كفة علال الفاسي. فأن ينتقل شخص من حزب الشورى إلى حزب الاستقلال، فإن ذلك يعني أمرا واحدا: أنه خال من الأحقاد والضغائن التي امتدت بين الحزبين "اللدودين" على طول المسافة المفروشة بينهما بالدم. ترك السي العربي حزب الشوى والاستقلال دون أن يترك صداقته للشوريين؛ ويوم اقترحه الحسن الثاني، وليس بوستة أو اليوسفي، لمنصب وزير الاتصال، في حكومة التناوب الأولى، هاتف المساري الكاتب العام لوزارة الاتصال، الذي لم يكن غير الشوري محمد الصديق معنينو، قائلا: "قالو لي عندك شي قهوة مزيانة" ثم قصد منزله طالبا منه أن يتعاون معه في مهمته التي دونها خرط القتاد. لم يُخفِ السي العربي يوما إخفاقه في مهمته الوزارية التي وجدها محفوفة بأشواك إدريس البصري ومساميره، فقد قال لي مرة، بسخريته الوديعة: "جيت للوزارة باش نجري على اطريشة، ساعة اطريشة هو للي جرا عليّ". عاش السي العربي، وهو برلماني وديبلوماسي ووزير.. صحافيا، يسال أكثر مما يجيب، ينصت ضعف ما يتحدث. ولطالما كنت أستدرجه لكي يطيل في الحديث، وعندما كان يفطن لحيلتي يبادرني بالسؤال. كان السي العربي كفاكهة: لذيذا ومفيدا. في روايته " L'Insoutenable Légèreté de l'être" ("خفة الكائن التي لا تحتمل") يتساءل ميلان كونديرا: "كان باريميند يقول: الخفيف هو الإيجابي والثقيل هو السلبي. هل كان على حق أم لا؟ هذا هو السؤال. وشيء واحد أكيد: النقيضان الخِفّة – الثِقَل هما الأكثر غموضاً والتباساً بين المتناقضات". لقد كان السي العربي يجمع هذين النقيضين بانسجام: كان خفيف الظل ثقيل ضوء تتحلق حوله الفراشات، فيضيء لها طريق الحرية والجمال والعلم.. دون أن يجعلها تحترق أو تعمى أو تمل. رحم الله السي العربي.