ثمة متغير حاسم في الدبلوماسية الدولية التي تحاول اليوم التحرك لإيقاف إطلاق النار في غزة. فقد أصبح لمقولة أن "السياسة هي استمرار لحرب بطرق سلمية" مضمونها العميق بعد أن فرضت المقاومة الفلسطينية تغيير قواعد الصراع في تدبير الهدنة أو وقف إطلاق النار. سابقا، كانت القاعدة هي البدء بوقف إطلاق النار ثم البحث في تفاصيل الاتفاق بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، بحيث يتم ترسيم الهدنة ويقع الاتفاق على الالتزامات، ثم يتحلل الكيان الصهيوني منها بسهولة ويعود الوضع إلى ما كان عليه ما قبل العدوان، ويغمض الراعي الأمريكي العين عن الإخلال والخرق الصهيوني، ولا يملك الجانب العربي والمصري على وجه التحديد أي سلطة لإجبار الكيان الصهيوني على الالتزام بتعهداته. المتغير الجديد الذي طرأ على ساحة الصراع العربي الصهيوني يتمثل في أربع جوانب: 1- الأول مرتبط بجدل وقف إطلاق النار/ الاتفاق، إذ لم يعد الجانب الإنساني وإيقاف العدوان على المدنيين مصدر ضغط على المقاومة والسلطة الفلسطينية لجرها إلى وقف إطلاق النار بأي ثمن دون اتفاق على تفاصيل وتعهدات واضحة، والقبول بمبادرة وقف إطلاق النار من غير تغيير الشروط التي كان عليها الوضع الفلسطيني قبل العدوان. 2- الثاني، لم يعد المهم هو أن تصدر مبادرة من هذه الجهة أو تلك، ولم يعد بالضرورة الجانب المصري هو الفاعل التقليدي في الخروج من وضعية العداون، بل صار المهم هو أن يكون وقف إطلاق النار مشروطا بتحقيق المطالب الفلسطينية بتعهدات دولية، إذ بدا واضحا أن زيارات وزير الخارجية الأمريكي ولقاءاته المتكررة بالأطراف خرجت خالية الوفاض بحكم أن المقاومة استوعبت دروس الماضي ورفضت إنتاج نفس التجارب السابقة، حيث اشتراطت المقاومة المصداقية في الوساطة الدولية، رافضة بذلك أن تستمر نفس القواعد السابقة التي كان الجانب الأمريكي يمثل فيها الراعي الرئيسي وكانت مصر تمثل مصدر المبادرة والوساطة. 3- الثالث، وهو أن الشروط التي كانت تتم فيها المصالحة تغيرت، كما أن مضمونها السياسي أيضا تغير، فالمصالحة جاءت في سياق محاولة العزل الدولي والإقليمي لحركة المقاومة الإسلامية حماس، بخلاف التجارب السابقة للمصالحة التي كانت تأتي في الغالب في سياق رغبة السلطة الفلسطينية في تقوية مواقعها التفاوضية أو في الحد الأدنى من أجل وقف الاقتتال الفلسطيني، أما من حيث المضمون فبدا واضحا أن السلطة الفلسطينية وقعت المصالحة ضمن سياق المقاومة، إذ رغم شدة الضغط الدولي عليها، فقد اختارت في الأخير ألا تكون في الخط المعاكس للمقاومة الميدانية الموجودة على الأرض. 4- الرابع وهو المتعلق بالموقف العربي والإسلامي، الذي تأرجح بين ثلاث اتجاهات، اتجاه جمع بين البعد الإنساني وبين الخيار السياسي المتوازن القائم على ضمان حق الشعب الفلسطيني في الكرامة ويمثله المغرب بامتياز، واتجاه فضل تجربة نفس القواعد السابقة في التسوية وتمثله مصر مع تقديم الدعم الضمني للطرف الصهيوني، واتجاج آخر فضل التواري عن ساحة الأحداث بحكم أنه أنتج في الآونة الأخيرة خيارات لمحاصرة الإسلاميين، فلم يعد قادرا على إنتاج اي مبادرة أو موقف ولو في أبعاده الإنسانية. خلاصة هذه المتغيرات، أن خيار المقاومة أجبر الفاعل الدولي على تغيير قواعد الدبلوماسية التقليدية التي كانت تتعاطى مع مثل هذه الأحداث، وفرض عليها التكيف مع مواقفها، كما أحدث فرزا واضحا في الموقف العربي اتجاه القضية الفلسطينية، وأربك خيارات استراتيجية كانت تسير في اتجاه محاصرة المقاومة وضرب إمكاناتها الدفاعية والعسكرية، بل أربك حتى الخيارات الاستراتيجية التي كانت تسعى إلى ضرب الحركات الإسلامية وخلق مزاج عام عربي مناهض لها.