إذا ما قارنا حالة الإنسان في المجتمعات الغربية من جهة، ثم في المجتمع العربي الإسلامي من جهة أخرى، نجد أن الأمة الإسلامية تعاني من أزمة نفسية غير مسبوقة تؤثر على إنتاجيتها الفكرية والثقافية والعلمية، وتجعلها في مصاف الدول التابعة، ثم تغوص بها في غيابات اليأس التي تنهي عهد المجد والرسالية السابقين وتدمر مستقبل وآمال الأجيال الاتية. هذه الحالة وإلى عهد قريب كانت أبعد ما يكون عن الإنسان المسلم، الذي كان، عكس الإنسان الغربي، يعيش في نوع من الانفراج والراحة النفسية،-هذه الحالة- أصبحت تسود بشكل مهول في أوساطنا عندما تخلى المسلمون عن قيمهم الفكرية والعقدية والدينية التي كانت تشكل الوقود الطبيعي الفطري الفعال، الذي ينفث الروح المعنوية في باطن الفرد لكي ينطلق في الإعمار والبناء والإنتاج الفكري والثقافي والعلمي. والحال أن الدافع المعنوي العقدي يشكل السقف الأسمى الذي يضعه الإنسان هدفاً -إستراتيجياً- في حياته الدنيوية، فيعمل من أجله بلا ملل ولا كلل حتى يبلغه أو يفنى أجله وهو في الطريق، فيكون في آخر المطاف قد أدى رسالته في هذه الحياة وينتقل إلى حياة سرمدية لا شقاء فيها وعناء. فالإنسان المسلم عندما يضع نصب عينه رضا الله تعالى ودخول جنته، فهو يعمل ويكدح بدون عياء ولا فتور، فيعين الأرامل، ويكفل اليتامى، ويعلم الناس، ويبدع وينتج ويعمل ما تيسر له من الخيرات على قدر جهده واستطاعته إلى أن يلقى ربه وهو على الطريق. في المقابل كان يعاني الغرب من أزمة قيم وروحانيات، كانت توجهه إلى أهداف سرابية أبعد ما تكون من السرمدية، أهداف دنيوية محضة، ما إن يصلها الإنسان أو يفشل في الوصول إليها، حتى تنتهي مهمته وتنقضي مدة صلاحيته، فيسقط في جب اليأس والتشاؤم، فإما ينهي حياته بنفسه، أو يأكل ويشرب إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا. لن أغوص الآن في اشكالية تقدم الغرب رغم استمراره في تركيز أهدافه على أغراض دنيوية فقط – والذي سأتطرق له في وقت لاحق- ولكن سأركز أساساً على الأسباب التي تؤثر على نفسية الإنسان وكيفية تعامل المسلم معها. يمكن تقسيم الأسباب التي تؤثر على الحالة النفسية للإنسان، دون التعمق في المصطلحات العلمية، إلى ثلاثة أقسام : 1) أسباب تخلق السعادة في نفس الإنسان. 2) أوقات فارغة، لا أسباب للسعادة ولا للحزن فيها. 3) أسباب تخلق الحزن في نفس الإنسان. أما الأسباب التي تخلق السعادة، فالغرب والمسلمون والبشرية أجمعون فيها سواء في الجانب الدنيوي منها، فهي أسباب تخلق انشراحا في القلب وسعةً في الصدر، وهي باختلاف مستوياتها تدور بين رسم ابتسامة على محيا الإنسان، مروراً عبر القفز فرحاً، إنتهاء بذرف دمعات الفرح المالحة. أما الإنسان المسلم المؤمن فهو يضيف إلى هته الآثار كلها عاملا آخر لا يعرفه غير المسلم ألا و هو عامل الحمد بالقول و الشكر بالعمل، على النعم التي أنعم الله بها عليه فكانت سببا في فرحه. و ما يزيده الشكر إلا زيادة فالنعمة و بركة فيها، و أما الجحود و الإلحاد فما يزيد الإنسان إلا تبارا… يقول تعالى في محكم التنزيل :"و إذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم، و لإن كفرتم إن عذابي لشديد" أما خير الأنام محمد صلى الله عليه وسلم فقد آثر أن يشكر الله تعالى بالقيام بين يديه ليل نهار، و هو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر، فلما سألته عائشة رضي الله عنها عن سبب ذلك أجاب صلى الله عليه وسلم :"أفلا أكون عبدا شكورا". فالشكر شرط لدوام النعمة، ولا يجب على المؤمن الاقتصار على الفرح كغيره من غير المسلمين و إنما عليه أن يحمد الله قولا و يشكره فعلا حتى تدوم عليه نعمه سبحانه. 2) أما الأسباب الحيادية التي لا فرح فيها ولا تعاسة، فهي تشكل غالب وقت الإنسان، فأما غير المسلم فهو يتعامل معها بحيادية، فيأكل و يشرب و يعمل و يكد، و مزاجه مائل بين العادي و المعكر، و هو حال غالب المسلمين في واقعنا الحالي و للأسف، فهو يقيم وضعه النفسي بشكل ثنائي، فإما هناك أسباب تدعو للفرح و في هذه الحالة هو سعيد، و إما هنالك أسباب غير تلك إما تدعو للحزن أو محايدة فهو في هذه الحالة تعيس. و الحال أن المؤمن في الحالات العادية يجب أن يكون في فرح و سرور و حمد و شكر على ما هو فيه من نعم لا يحس بها بقدر ما أصبحت مألوفة لديه… فليستحضر نعمة الصحة، نعمة البصر، نعمة السمع، نعمة المال، نعمة البنين و البنات، فليستحضر النعم المحيطة به التي لا تعد ولا تحصى، و سيجد من أسباب السعادة ما يغنيه عن ذاك الفراغ و لن يكون بعدها إلا فرحا مستبشرا، و ليشكر النعم و يرجو من الله دوامها. 3) أما الحالة الثالثة والتي يتعرض الإنسان فيها لأسباب تدعو إلى الحزن، فطبيعة الإنسان تقتضي أن يحس بضيق في الصدر ومرارة في القلب، فهو يتجرع مأساة موت قريب، أو ضياع حبيب، أو تشتت مال أو بعد عيال… وليس الأمر بالهين، إذ إن يمكن في هذه الحالات أن يدخل الإنسان في متاهات الحزن والتشاؤم إلى نهاية حياته، لكن الغريب في حالة المسلم المؤمن بالقضاء والقدر، أنه ورغم الحزن المحيط به، يوقن بأن كل ما اصابة خير، وأنه ما كان ليخطئه والله قد كتبه عليه، فيصبر على مصيبته ويحتسب أجرها عند الله تعالى، وهو بذلك قد ربح الدنيا والآخرة. يقول تعالى في محكم التنزيل :"وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ" و قال بن القيم رحمه الله :"لو كشف الله الغطاء لعبده ، و أظهر له كيف يدبر الله له أموره ، و كيف أن الله أكثر حرصا على مصلحة العبد من العبد نفسه ، وأنه أرحم به من أمه ، لذاب قلب العبد محبة لله و لتقطع قلبه شكرا لله" هو يقين العبد في أن المصيبة إذا قدرت عليه، فلأن الله يرى مصلحة العبد والخير له في تلك المصيبة، فيمتحنه ويفتنه، ويجازيه على قدر رضاه وصبره وإيمانه. عقيدة المؤمن حصن حصين بينه وبين ما يتعرضه في الحياة من عقبات وحواجز، تهون كل شيء مادي دنيوي يحول بينه وبين رساليته وإبداعه في الحياة الدنيا، فلا يتعلق بسفاسف الأمور، ولا تثبطه مصائب الدنيا الفانية، بل ينطلق يستغل عمره طولاً وعرضاً، ينشر الخير بقدر ما يستطيع، ويدعوا إلى الله بأخلاقه، يحسن في عمله، ويفكر لأبناء الأمة كما يفكر لأبنائه، ويساهم في بناء المشروع الحضاري الكبير للأمة، فإذا إنقضى أجله يكون قد أدى رسالته على أكمل وجه، فلا ينقطع عمله وهو في دار الحساب بلا عمل. أقول في الأخير أن الأحداث العرضية الدنيوية لا يجب أن تؤثر على المسار الرسالي للإنسان، فعلى الإنسان أن يؤدي المهمة التي خلق من أجلها، وهدفه أن يمس أثر إصلاحه في المجتمع الشعاع الأقصى من خلق الله في هذا العالم. يقول صلى الله عليه وسلم :" عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ "