شكلت المشاركة في مؤتمر علمي بجامعة نجم الدين أربكان بمدينة قونيا التركية، وزيارة مدينة إستمبول العامرة، فرصتي السانحة لاكتشاف دولة كبيرة وبلد عريق، هو الجمهورية التركية المسلمة، وللوقوف من كثب على بعض من مظاهر النهضة التركية الشاملة، التي جعلت من هذا البلد في ظرف عقد ونيف من الزمان قوة إقليمية ودولة صاعدة يحسب لها ألف حساب في الخريطة الجيوسياسية العالمية الجديدة، والتي تفسر سبب استهداف لاعبين دوليين وإقليميين كبار لاقتصاد تركيا ولأمنها واستقرارها. وليس القصد بهذا المقال استقراء مظاهر التقدم، واستقصاء مظاهر نهضة الأتراك، التي تحفل بها التقارير الاقتصادية والتنموية العالمية، والتي باتت معلومة مشهورة لدى الخاص والعام، وليس القصد به الحديث عن مشاريع البنية التحتية من طرق وجسور ومعامل ومطارات ومنشآت بوأت تركيا مراكز عالمية متقدمة، فإن ذلك ليس إلا عرضا لجوهر، ونتيجة لسبب، هو العقل التركي، والإنسان التركي، والأمة التركية، والثقافة التركية، وهذه العناصر هي المقصودة بهذا المقال، وهي التي وسمناها بأسرار النهضة التركية، وإنما صدرناها ب "من" لأن ما نرومه هو التمثيل والاستدلال بالجزء على الكل، وليس الاستقصاء الذي لا يتسع له المقام، وإليك بعض الأسرار التي رأيناها رأي عين، بعدما سمعناها أخبارا وقرأناها تقارير: 1- لسان تركي واحد: اللسان التركي هو اللغة الرسمية للجمهورية التركية، وهو ليس لسانا رسميا ورقيا كما هو حال العربية عندنا، وإنما هو لسان دستوري وواقعي في الآن ذاته، فالتعليم عندهم بالتركية، والإعلام بالتركية، والإدارة بالتركية، واللافتات والإعلانات والتشوير الطرقي بالتركية، حتى التواصل في المطارات ومحطات القطار وعلى متن الخطوط الجوية التركية، كل ذلك يتم باللغة التركية، مع ترجمة مختصرة إلى الإنجليزية. أما الذين يحاولون التواصل والنهوض بأربع لغات مثلنا، فلا يتقنون واحدة منها في نهاية المطاف، ولا يصنعون سوى فوضى لغوية، تنضاف إلى ما عندهم من أنواع الفوضى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويستنزفون ما عندهم من قدرات وإمكانيات في أوراش خاطئة ومعارك وهمية، فيظلون يراوحون مكانهم فيما العالم من حولهم ينطلق بسرعة البرق نحو آفاق أوسع ومواقع أرحب. 2- العلم التركي يملأ المكان: في كل دول العالم، تكون الأعلام الوطنية محط اهتمام واحترام، وموضع عناية ورعاية، باعتبارها رمزا للوطن ووحدته ومقدساته، ولذلك ترفع فوق الإدارات والمؤسسات والمرافق العمومية، وتزين به الشوارع والمناسبات. ولكن ميزة الأتراك أنهم لا يكتفون برفع علمهم الوطني فوق إداراتهم ومؤسساتهم العمومية، بل يرفعونه كذلك فوق سياراتهم ومحلاتهم وشرفات منازلهم ويزينون به شوارعهم بمناسبة وبدونها، وهذا أمر ينم عن حس وطني متقد وشعور قومي فياض، ولا حاجة إلى التذكير بأثر الروح الوطنية والشعور بالانتماء في نهضة الأمم الشعوب. 3- أمة تعود إلى جذورها: رغم بعض مظاهر العلمنة والتغريب التي يراها الزائر في سلوكات بعض الأتراك، والتي ورثوها من عقود العلمانية البئيسة، فإن العين لا تخطئ سعي القوم الحثيث إلى استرجاع هويتهم والعودة إلى أصولهم، ولذلك تنتشر المساجد في مدنهم انتشارا، حتى أن بعض الأتراك حدثونا أنه في محافظة قونيا – مدينة في حجم فاس – وحدها 2500 مسجد، ويعتني الأتراك بالمساجد نظافة وأناقة وأفرشة أيما عناية. كما أن الحجاب بدأ يغلب على الشارع التركي وبات يمثل زي السواد الأعظم من التركيات. وفي الإعلام التركي قنوات تدعو إلى الإسلام وتسعى إلى التمكين له بين الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، وفق ما توارثه الأتراك من فقه حنفي وعقيدة سنية ماتوريدية. على أن من المؤشرات الدالة في هذا السياق قرار الحكومة التركية تدريس اللغة العربية في التعليم الثانوي، بعدما ظلت في مقدمة الممنوعات وعلى رأس المحرمات في عقود المسخ الفكري وطمس الهوية الإسلامية للأتراك في سنوات العلمانية العجاف. 4- الجامعة التركية قاطرة حقيقية للتنمية: تتوفر تركيا على حوالي 250 جامعة، ما بين حكومية وأهلية، وعلى جيش عرمرم من أساتذة التعليم العالي يبلغ حوالي 150 ألفا، وقلما تجد بين أساتذة الجامعات الأتراك من لا يتقن الإنجليزية إلى جانب التركية. وتحظى الجامعات التركية بتصنيف عالمي متقدم بين أكثر الجامعات كفاءة وعطاء في العالم. وتربطها علاقات وشراكات مع الشركات والمؤسسات من القطاعين العام والخاص تقدر أحيانا بملايير الليرات. وتسعى تركيا كسائر البلدان المتقدمة والصاعدة لاستقطاب الأدمغة والعقول لتوظيفها في الدورة الاقتصادية والتنموية، ولذلك يستفيد الطلبة الأجانب في تركيا من السكن والتغذية وبطاقة الحافلة وما يعادل 3000 درهم منحة شهرية. فأين نحن من الأتراك ونحن الذين لا تتجاوز جامعاتنا عدد أصابع اليد ثلاث مرات، ولا يتجاوز عدد أساتذتها 14 ألفا، ولا تزيد منحة طلبتها عن 600 درهم شهريا؟ وكيف لنا أن نكسب رهان التنمية من غير جامعة متحركة ترتبط بمحيطها وتؤثر فيه؟. 5- صنع في تركيا: مما يلفت نظر الزائر لتركيا، كثرة المعروض ووفرة الإنتاج الزراعي والصناعي، لدرجة أن هذا العرض الكثيف والمتنوع يفوق الطلب عليه بكثير، مما يجعل الأسعار في المتناول، لكن ما يلفت النظر أكثر هو ندرة المنتوج الأجنبي وسيطرة علامة "صنع في تركيا" – باللغتين العربية والتركية – على السوق التركية، مع انفتاح البلد على الأسواق العالمية، مما يدل على أن للمنتوج المحلي من خصائص الجودة والتنافسية ما يجعل منه منتوجا لا ينافس، لدرجة أن بعض التجار يغضبون عندما تسألهم عما إذا كان المنتوج صينيا، بل إن الإنتاج التركي المدني والعسكري بدأ يجد له موطئ قدم في كثير من الأسواق العالمية الكبيرة والعريقة، لما يميزه من جودة وتنافسية. 6- بلد بدون تسول: التسول الذي أضحى ظاهرة عالمية، والذي بدأ يظهر حتى في أرقى وأغنى البلدان، مثل أوربا الغربية والولايات المتحدةالأمريكية، ظاهرة نادرة في تركيا إلى حد الانعدام تقريبا، وعندما ترى أو تصادف متسولا في الشوارع والميادين، فالغالب أنه من اللاجئين السوريين الذين أجبرتهم ظروف الحرب على التشرد واللجوء، وأما أن يكون تركيا، فهو ما لم نلحظه قط خلال أزيد من أسبوع من الإقامة، مما يعني أنه إلى جانب النهضة الاقتصادية، هنالك قدر من العدالة الاجتماعية تضمن للفئات الهشة الحد الأدنى من العيش الكريم، وهذا أمر مفقود في أكثر البلاد العربية والإسلامية، وهو سبب القلاقل والتوترات التي أضحت سمة لتلك البلاد. 7- طرامواي أليف ومهذب: تتمتع تركيا بشبكة مواصلات حديثة ومتقدمة، تشمل المطارات النشيطة، والقطارات السريعة، والطرق السيارة، والجسور المعلقة، والموانئ البحرية، وغيرها. ولكن طرامواي إستمبول الذي يربط شطر المدينة الآسيوي بشطرها الأوربي، يبقى فريدا من نوعه، فهو طرامواي أليف يشارك السيارات والحافلات نفس الطريق ولا ينفصل عنها إلا في بعض الممرات والشوارع الضيقة، وهو طرامواي يحترم حق الأسبقية ويتوقف في الطرق المشتركة لتمر حافلة من هنا أو سيارة من هناك. عندما رأيته على تلك الحال قلت لصاحبي: ما بال الطرامواي عندنا متوحش يستولي على الطريق وحده؟ ولا يحترم حق الأسبقية؟ وكثيرا ما يتسبب في حوادث سير يمكن تفاديها؟ أجابني مازحا: لأنه ببساطة طرامواي مغربي يشبه أهله والمثل يقول: "من شبه أباه فما ظلم".