قضى سنين في تنوين عقول الصغار , كثير منهم يناديه باسم "عمي محماد" , أهل القرية يحترمونه , نظرا لجديته في العمل المتواصل الدءوب , يحترمه الجميع ما عدا بعض الكسلاء الذين كانوا يتعرضون للعقاب لكونهم لا يقومون بواجباتهم الدراسية ... كون وربى وعلم أجيالا من أبناء القرية , وأصبح كثير منهم أطرا مهمة في دواليب الوظيفة العمومية . بقي وحيدا في سلك التعليم يحارب الأمية والجهل . فتحت أمامه فرص عدة للوصول إلى مناصب عليا , لكن ضميره المهني , لم يستسغ كل ذلك , وبقي وحيدا في الحلبة يواجه ضربات ولكمات الفقر و الاحتياج , بصبر كبير منقطع النظير . في كل سنة يشتري كباقي المتعلمين . محفظة جديدة , ودفاتر وأدوات مدرسية , تذكره بأيام الدراسة يوم كان يقرا بصوت مرتفع كتاب " اقرأ " لأحمد بوكماخ رحمه الله . إن " عمي محماد " رمز للاجتهاد والبحث العلمي , كان يملا جيوبه بقطع من الحلوى ذات الألوان المتنوعة , والمرسوم عليها ساعة منبهة . يمنحها داخل الفصل للمجتهدين كتحفيز لهم وتشجيع متواصل لعملهم وتفوقهم . وكان يعاقب المتهاونين في حياتهم الدراسية ولا يجاملهم أبدا بمنحهم نقطا لا يستحقونها . وأكثر من ذلك , كان يوقفهم في الآزفة والشوارع ليطرح عليهم أسئلة تتعلق بالدروس الماضية التي درسها معهم بأقسامهم , والويل كل الويل لمن نسي الدرس أو جزءا منه . مرت سنين وسنين , وقد هرم " عمي محماد " وترقى من ترقي بطرق غير شرعية , ولازال إلى اليوم وحيدا ملتزما بمبادئ مهنته الشريفة , اشتعل رأسه شيبا , وبدا ظهره يتقوس شيئا فشيئا , يتهكم منه زملاؤه الشباب الذين يعمل معهم , ومنهم من كان في فترة من العمر تلميذه , فعلا يتهكمون منه , لأنه يعمل في الفصل وهو يرتدي وزرة بيضاء , بحيث يسمونه ببائع اللبن الممزوج بكسكس الشعير "مول سيكوك" , وكان يبتسم لهم , ويصبر لاستهزائهم وتهكمهم , ولما كثر عليه هذا اللقب في ساحة المؤسسة التي أفنى فيها حياته العملية , ضاقت به الحياة فأجابهم : صحيح أنكم لا تستطيعون اليوم تحمل الوزرة البيضاء , بعد أن كانت رمزا للجد والعمل , وكثير منكم اليوم يلبس سراويل ضيقة أمام التلميذات والتلاميذ , بدون حياء ولا حشمة . اهذه شيم رجل التعليم والتربية ؟؟؟ وأجمل ما في عمي محماد هو انه اليوم اشرف على سن التقاعد , وهو كعادته متواضع , يحبه الجميع , يصلي في نفس المسجد , ويسكن نفس الحي , ويوزع على الصغار نفس الهدايا , ويرشدهم إلى نفس النصائح والعبر الماضية . انه فعلا تحفة نادرة , وجب الاعتناء بها , قبل أن يموت ويفنى , و تتلاعب الرياح بصفحات حياته الرائعة , لتسقط في الأخير في لهيب النيران المشتعلة والمحترقة . محمد همشة . اكادير في : 16/04/2012 .