استجابة للنداء الذي سبق ونشرته العديد من المنابر الإعلامية "الورقية والإلكترونية تحت عنوان "نداء من أجل جبهة وطنية ضد التدمير المباشر للمدرسة العمومية " و الذي بادر به الأستاذ الزهيد مصطفى وتحدث من خلاله عن جحيم السعادات الإضافية،أود بدوري وبناء على ما سبق الإسهام في هذا النقاش بعد تأمل في الجوانب اللاأخلاقية للظاهرة والتي أسميتها ساعات الدعم الإجبارية، و أنا غير متأكد، هل وفقت في هذه التسمية أم لا ، فمن الصعب جدا أن نعطي اسما يكون دقيقا لبعض المشاهد المجتمعية الجديدة علينا، المهم أننا حاولنا، فإن أصبنا، فذلك جيد، و إن لمن نصب، فحسبنا أننا حاولنا، فقد حاولت أن أقدم تسمية محددة لكي أستثني مظاهر أخرى و أشكالا أخرى للدعم التربوي، و التي قد تقارب الموضوع الذي أسعى إلى مقاربته أو تبتعد عنه، حتى لا يفهمني القارئ خطأ أو يحملني ما لم أقصد الخوض فيه . استبشر الآباء خيرا، كما استبشر الجسم التربوي ببلادنا صدور مذكرة جعلت من مسألة الساعات الإضافية بمثابة جريمة يعاقب عليها القانون، المذكرة ذاتها نصت على تكثيف أعمال المراقبة التربوية ومراقبة الفروض وطريقة تصحيحها وتنقيطها من أجل تجنب كل ما من شأنه أن يخل بمبدأ تكافؤ الفرص بين التلميذات والتلاميذ أو يؤدي إلى إرغامهم على متابعة الدروس الخصوصية، ورغم النقاط التي يمكن أن نسجلها على هذه المذكرة، إلا أنه على العموم فقد حاولت العمل على إيقاف ظاهرة مقيتة معيبة جدا تنخر المدرسة المغربية من الداخل، حيث أصبحت ظاهرة الساعات الإضافية و التجارة فيها ظاهرة خطيرة جدا يشكوا منها الجميع، و يندد بها رجال التعليم قبل أن يندد بها الآباء و التلاميذ، فبعد أن كانت هذه الساعات تقدم بشكل مجاني في المدرسة أو حتى خارجها، من طرف مدرسين من دوي الضمائرالنبيلة اللذين كان كل همهم هو مصلحة التلميذ، وغيرتهم عليه، و رغبتهم في أن يروه في المستوى الذي يستحقه باعتباره الحلقة الأولى و الأخيرة في المضي ببلادنا نحو الأمام و تحقيق خير هذا الوطن، فقد أصبحت الآن بمثابة طريق ملكي من طرف مرتزقة عديمي الضمير، أصبح كل همهم أن يمتصوا من دماء التلاميذ الأبرياء، و الآباء الغارقين في مآسيهم الاجتماعية، و الصعود في السلم الاجتماعي و مراكمة الأموال بطريقة لا يمكن أن تكون أبدا مشروعة، بل إن جرائم هؤلاء تتجاوز بكثير بعض الجرائم التي يتم الحكم فيها بسنوات طويلة من السجن، فهم لا يؤذون بسلوكاتهم المريضة تلك تلاميذهم فقط ، بل يهدمون مجتمعا بأكمله و يشوهون و يضربون في معاييره و أخلاقه و قيمه ، و هذا هو الخطير في الأمر، لقد أصبح الآباء يجدون أنفسهم مضطرين لكي يدفعوا ثمن الساعات الإضافية لأبنائهم شاؤوا أو أبوا، و إلا فإن أبنائهم سوف يتعرضون للعقاب، و هي عقابات متنوعة تبدأ من التهميش داخل الفصل، حيث أن المدرس لا يعير اهتماما إلا لدوي الجيوب الميسورة، أما الآخرون فليس لهم حظ ، أو أن المدرس يجعل من حضوره إلى المدرسة العمومية بمثابة وقت للراحة وتسجيل للحضور، لا غير، و توفير للطاقة التي بإمكانه أن يجني من ورائها الأموال الصحيحة في ساعات الدعم التي يمكن أن يقدمها في أي مكان، مكان بمواصفات تربوية أو غير تربوية، كما يمكن أن يجعل من نقط الفروض الفصلية أو نقط المراقبة المستمرة سلاحه الفتاك، هكذا تصنع المأساة داخل مدارسنا فتنضاف مأساة أخرى، تأتي هذه المرة من هؤلاء الرجال الذين يلقى على عاتقهم قيادة المجتمع و تكوين الأجيال التكوين الصحيح . لقد أصبح يحز في أنفسنا أن نرى اليوم أبناءنا هكذا، و بعد أن ضيقت المذكرة الأخيرة على ذوي العقول الانتهازية، أصبحنا نراهم وهم يمشون في الأزقة الملتوية، مثنى مثنى، أو ثلات ثلات، حتى لا يثيروا الانتباه، كأنهم يذهبون إلى بائع مخدرات يعرف جيدا كيف يفر من العدالة، و يتحايل على الرقابة، خاصة في هذه الفترة من السنة التي تعرف التهييئ للامتحانات الإشهادية في مختلف المستويات، يمرون من الدروب المظلمة، و من الطرق غير السالكة، لكي يصلوا إلى مدرسي الساعات الإضافية، لقد أصبحنا نقدم من داخل مدارسنا قيما أخرى، مفادها هو التحايل على القانون، و الخروج عنه، و دفع التلاميذ إلى ذلك، هي قيم خطيرة جدا، لأن هؤلاء هم الذين سوف يخرجون غدا إلى سوق الشغل، فبأي ذهنية سوف يشتغل هؤلاء، أليسوا هم الذين سوف يصبحون عمالا غشاشين، لصوصا سارقين، ألا يتغذى التطرف على نماذج حاقدة اجتماعيا ، لم ينجح المجتمع في تنويرها، و تمكينها من ملكة التحليل و النقد؟ أليسوا هم اللذين قبل ذلك في الفصل، يهينوكم أنتم يا من تبيعون ضمائركم، و يفرضون عليكم أن تبيعوهم نقطة عالية، لما يؤدون لكم بقشيشا تبيعون به ذممكم ؟ أليسوا هم المحظوظون اللذين يحصلون على نقطة جيدة لأنهم محظوظون اجتماعيا، بشكل لا يراعي أبدا تكافؤ الفرص الذي تنادي به المدرسة المغربية؟ فأي قيم قدمنا لهم كي يتحلوا بها ؟ كيف سوف نحاسبهم على أشياء هم لم يتعلموها ؟ و كيف سوف ندعوهم إلى أن يكونوا نماذج صالحين، في مجتمع لم يتربوا فيه إلا وسط مصاصي الدماء ؟ و الغريب في الأمر هو أن بعض الدروس التي يجد التلاميذ أنفسهم فيها مضطرين للأداء و الدعم، هي دروس بسيطة جدا و لا تحتاج إلى الكثير من الجهد من أجل استيعابها ، فكيف يمكن لبعض المواد الدراسية مثل الفلسفة، و التربية الإسلامية، و اللغة العربية، و الاجتماعيات، أن تحتاج للدعم ؟ ألهذه الدرجة أصبحنا غير قادرين على تقديم درس في متناول التلميذ يكون من اليسير عليه فهمه دون أن يكون مضطرا للدعم ؟ ألهذه الدرجة فشلت المدرسة المغربية و نزلت إلى هذا المستوى ؟ هذه المدرسة التي تخرج منها مفكرون عباقرة و فنانون أفذاذ، أمثال محمد عابد الجابري، و عبد الله العروي، و المهدي بنبركة، و الطيب الصديق و أنور الجندي و غيرهم كثير، لما تعلنون عن ضرورة ساعات الدعم هذه، ألا تعلنون عن فشل المدرسة المغربية، وفشلكم أنتم كمدرسين معرفيا و أخلاقيا ؟ أم أنه لما تتحدث لغة المال ، يمكن التنازل عن كل شيء من أجل دريهمات معدودة، فلو تحقق الحد الأدنى من الدرس لما كان هؤلاء أبدا مضطرين لساعات الدعم، ولو أتيحت لهم إمكانية الإختيار حتى في ساعات الدعم، لما اختاروا بعض المدرسين اللذين يدرسونهم في المدرسة العمومية . ينادي اليوم الجميع بفساد المدرسة العمومية، و يتحدث الكل عن أن تعليمنا معاق و يعاني من تشوهات خطيرة جدا يلزمها سنوات طويلة من العلاج، و نحن دائما نؤكد على أن الحل لا يمكن أن يأتي إلا من طرف من خبر الدار، و علم بمكامن الخلل فيها، فقد ضقنا ضرعا بتلك المساحيق التجميلية، وتلك الوصفات المستوردة و الجاهزة، لأننا نعلم بأن المغرب بثقافته الغنية و تراثه الجميل، يحتاج إلى تعليم وإصلاح يراعيان كل خصوصياته، و يأخد أعطابه و تشنجاته بعين الاعتبار، و هذا لا يمكن أن يحدث بلغة الهروب إلى الأمام، و التنصل من المسئوليات، و إنما من خلال و ضع اليد على الجرح، و القيام بمراجعات متعددة الاتجاهات، و نقد ذاتي شامل يوجه إلى جميع الأطراف، الدولة ، و المجتمع، و الجسم التربوي بأكمله، و نحن على علم بأن مدارسنا قد وصلت إلى مستويات لا يمكن السكوت عنها، و أصبحت محلا لإنتاج ظواهر خطيرة ، من قبيل التحرش الجنسي، و تعاطي المخدرات، و العنف بكل أنواعه، و ساعات الدعم الإجبارية المقيتة . يتذرع الكثير من هؤلاء بأن الدخل الشهري لا يكفي ، و بأن متطلبات الحياة الاستهلاكية كثيرة جدا ، و لا يسعفنا دخلنا لكي نلبيها كلها، و هي حجج واهية جدا، و لا يمكن للمجانين تصديقها أو الأخد بها، أوضاعنا بالفعل مزية جدا، و الأجواء التي يزاول فيها رجل التعليم مهامه، أوضاع سيئة و لا تسعفه لكي يؤدي رسالته بالشكل الأقوم، لكن أموال الساعات الإضافية ليست هي الحل، فلا يمكن إصلاح شيء و إفساد أشياء أخرى، لقد عرفت الأسرة التعليمة بقيمها السامية، و بنضالاتها المستمرة ، وهذا هو المكان الحقيقي الذي بإمكاننا فيه التعبير عن مطالبنا ومطالب المجتمع بأكمله، وبإمكاننا فيه أن نحسن من أوضاعنا، أما الإقتيات على تلاميذنا فهو عمل شرير لا ينم إلا عن ضعف ومرض ينبغي علاجه قبل أن يقضي على الجميع، فساعات الدعم هذه لم تورث إلا أساتذة فارغين أخلاقا ومعرفة، ودروس مستهلكة بالية، و عقولا لا تفكر، ففي الوقت الذي كان فيه المدرس يستثمر وقته في التحصيل و المعرفة ، و تطوير المعرفة المقدمة للتلاميذ ، أصبح فيه المدرس تاجرا لدروسه ، لا يملك الوقت لكي يطور مستواه أو يحين و يؤهل معارفه ، أو الإنخراط في هموم المدرسة و الدفاع عنها . لقد كان المدرس في الماضي هو الذي يخرج في المظاهرات ، و يجعل من علمه ومعرفته ، نبراسا يستضاء به المجتمع في ظلماته ، و كتلة واعية مفكرة متخلقة ، بإشارة منها تحرك المجتمع و تغير السياسة و تقوم المسارات المعوجة ، لقد كان مدرسا عضويا ، ومثقفا متزنا ، لا يصمت ، و لا يتنازل ، ولا يتزحزح قيد أنملة عن أهدافهم السامية ، و لنا في أساتذة كبار تتلمذنا على أيديهم فتعلمنا منهم العزة ، و العفة ، و الأخلاق ، و الكرامة واستمتعنا معهم و تعلمنا منهم الوجود الجميل، و كيف نكون نحن ، قادرين على المضي قدما، أما اليوم فلم نعد نجد هذه النماذج إلا فيما نذر ، لقد أصبح هم الجميع هو أن يستفيذ من الكعكة ما استطاع، وأن يمثل نموذج اللصوصية و الإنتهازية، و الشر، فأي يقيم نقدم للأجيال المقبلة ؟ كانت كذلك المدرسة بمثابة حضن دافئ يعبر فيه التلميذ على إمكاناته و يطور ذاته، و يكتشف مواهبه التي يعمل مدرسون نجباء على صقلها و تطويرها، في هذه المهنة النبيلة، الأخلاق أولا، سلاح المدرس الذي لا يمكن أن ينجح بدونه، ثم الأخلاق ثانيا، المدرس القدوة، هو الشرط الأول، يا أيها المدرس، نريد قيمك أولا، أما المعرفة فهي متراكمة و أصبحت في عصر التكنولوجيا موجودة، يمكن للكل الاستفادة منها بقليل فقط من التوجيه . أمام هذا الوضع الكارثي، و أمام هذه النماذج المختلة، و أمام هذه الرؤى المعوجة، لا بد أن نضطلع جميعا بأدوارنا ، و أن نعمل نحن أولا من داخلنا، على إعادة الهيبة و الكرامة إلينا، و أن يتحمل الكل مسؤوليته، و أن يعي كل الوعي الدور الذي تلعبه المدرسة في بناء المجتمع و التهييء للمستقبل، في عصر أصبحت تتقاذفنا فيه العولمة، و أصبحت القوى العظمى تهددنا بالإتباع و الابتلاع، كما يجب على الدولة أن لا تقف مكتوفة الأيدي و أن تعمل على الحد من الظاهرة و هي تملك كل الوسائل للقيام بذلك، فلا يمكن أن يتم التوقف على إصدار المذكرات و نشر التوصيات، لا بد أن تكون المذكرة السابقة مصحوبة بإجراءات عملية تحد ممن يتحدون الجميع، لا بد من سياسة زجرية ضد كل من سولت له نفسه التعدي على الأخلاق و القيم و التلاميذ ، نريد مدرسة كريمة، نريد مدرسة تضمن المساواة و تكافؤ الفرص ، مدرسة من حق الجميع، مدرسة تعلوا ولا يعلى عليها، توجه المجتمع، و لا تخضع له . الحسين المعطاوي: أستاذ مادة الفلسفة